المقدمة:

     الحمد لله ربّ العالمين، الصّلاة والسّلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله الطيّبين الطّاهرين. أمّا بعد، فإنّ الهدف الأسمى لتحقيق الحكومة الدينيّة هي تشكيل الحضارة الإسلاميّة، والركن الرئيسي فيها هو الإنسان ومعرفته. إذن مباحث علم النفس لها دور كبير وجذريّ في تحقيق الحضارة الإسلاميّة. فالنفس هي المركز والمحورّ الأساسي في العلوم الإنسانيّة والاجتماعيّة. وأنّ البحث عن النفس هو المجلى والمظهر لتجلّي جميع القواعد الفلسفيّة في كلّ مدرسة. وابن تيمية من أعلام القرن السابع، صاحب مؤلفات كثيرة، ومؤسّس الفرقة الوهّابية السلفية. له آراء خاصة في مجال المنطق والفلسفة والأصول والفقه والتفسير. وصحّة آرائه تظهر في النفس. من هذا المنطلق، اختار الباحث البحث، وجعله موضع الدراسة والتحليل. 

 يشتمل هذا البحث على فصلين، الأوّل يتحدّث عن شخصيّة ابن تيمية، والثاني عن آرائه في النفس. وذكر خلاصة البحث والنتيجة في الأخير.

الفصل الأول: شخصية ابن تيمية

1- اسمه ونسبه ولقبه:

   هو تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله بن الخضر بن محمد بن الخضر بن إبراهيم بن علي بن عبد الله بن تيمية الحراني ثم الدمشقي الحنبلي. يلقب بابن تيمية وبه اشتهر. وسبب شهرة الأسرة بابن تيمية؛ فهو أن جدّه محمّد بن الخضر حج وله امرأة حامل ومرّ في طريقه على درب تيماء -بلدة قرب تبوك- فرأى هناك جارية طفلة حسنة الوجه قد خرجت من خبائها، فلمّا رجع إلى حران، وجد امرأته قد ولدت بنتا، فلمّا رآها قال: ياتيميّة يعني أنّها تشبه التي رآها بتيماء فلقّب بذلك. وقيل أن جدّه محمّدا هذا كانت أمه تسمّى تيمية، وكانت واعظة فنسب إليها هو وبنوه.(1)

2- عائلته:

   أسرة تقي الدين أحمد عريقة في التّدين والمعرفة والعلم، وقد عرفوا بذلك من زمن طويل، ويعتبرون من حماة المذهب الحنبلي. فجدّه أبو البركات مجد الدّين من أئمّة المذهب الحنبلي وسمّي بالمجتهد المطلق، وقال عنه الإمام الذهبي:"حكي لي شيخ الإسلام ابن تيمية بنفسه أن الشيخ ابن مالك كان يقول: لقد ألان الله الفقه لمجد الدّين بن تيمية كما ألان الحديد لداود." وقد توفي سنة 652 هـ.

ووالده عبد الحليم بن مجد الدّين كان له كرسي بجامع دمشق وولى مشيخة دار الحديث السكرية بالقصاعين، وبها كان سكنه. وقد توفي سنة 682 هـ بدمشق ودفن في مقابر الصوفيّة. ولابن تيمية عدة إخوة منهم زين الدين عبد الرحمن الذي كان تاجرا وعاش بعد وفاة أخيه تقي الدين، وشرف الدين عبد الله المولود بحران سنة 666 هـ.(2)

3- مولده ونشأته:

(1)- انظر: ابن كثير الدمشقي، البداية والنهاية، تح: مجموعة من العلماء، دار الكتب العلمية، بيروت،1409هـ، الطبعة الخامسة، ج14/ص141، و ابن عبد الهادي، العقود الدرية من مناقب ابن تيمية، تح: محمد حامد الفقي، مكتبة المؤيد، ص2، و أحمد الذهبي، سير أعلام النبلاء، تح: عدد من الباحثين، مؤسسة الرسالة، بيروت، 1412هـ، الطبعة الثامنة، ج22/ص289.

(2)- انظر: ابن تيمية/wiki/ar.wikipedia.org.

   ولد تقي الدين أحمد بن تيمية يوم الإثنين 10 ربيع الأول 661 هـ الموافق 22 يناير 1263م في حران وهي بلدة تقع حاليا في جزيرة الشام بين نهري الخابور والفرات في ما يعرف حاليا بمنطقة الجزيرة. وعاش فيها إلى أن أتمّ السن السابعة في سنة 667 هـ، حيث بدأت التهديدات المغولية على تلك المناطق والفظائع التي ارتكبتها تلك الجيوش بالظهور بشكل ألزم العديد من الأهالي بالنزوح إلى مناطق أكثر أمنا، فهاجرت أسرة ابن تيمية حاملة متاعها إلى دمشق. فما أن وصلوا إليها حتى بدأ عبد الحليم والد تقي الدين بالتّدريس في الجامع الأموي في دار الحديث السكرية بالقصاعين ولم يفارقها إلى أن تُوفي. بدأ تقي الدين حياته بتعلم القرآن، فحفظه صغيرا وتعلّم التفسير والفقه، وقد افتى وله سبع عشرة سنة، وشرع في الجمع والتأليف من ذلك الوقت. وماكاد أن يبلغ من العمر الحادية والعشرين حتى توفي والده عبد الحليم فقيه الحنابلة سنة 682 هـ/ 1283م. فخلفه فيها ابنه تقي الدين أبو العباس وقد كان عمره إذ ذاك 22 سنة. وقد كان يجلس بالجامع الأموي بعد صلاة الجمعة على منبر قد هيء له لتفسير القرآن العزيز.(1)

4- وفاته:

  دخل ابن تيمية في السجن عدّة مرات. المرّة الأولى في سنة 705هـ في مصر، والمرّة الثانية في سنة 707هـ، ثمّ في سنة 709هـ في الاسكندرية. بقي من سنة 720هـ إلى 721هـ لمدّة خمسة أشهر في السجن أيضا.

 في آخر حياته دخل السجن في شهر شعبان سنة 726 هـ بسبب مسألة المنع من السفر لزيارة قبور الأنبياء والصالحين. ومكث فيه حتى مرض ابن تيمية قبل وفاته بعشرين يوما. وقد مات في ليلة يوم الإثنين لـ20 من ذي القعدة سنة 728 هـ. ولم يعلم أكثر الناس بمرضه حتى فوجئوا بموته. ذكر خبر وفاته مؤذن القلعة على منارة الجامع وتكلم به الحرس على الأبراج، فتسامع الناس بذلك واجتمعوا حول القلعة حتى أهل الغوطة والمرج وفتح باب القلعة فامتلأت بالرجال والنساء وصلي عليه بعد صلاة الظهر وكانت جنازته عظيمة جدا وأقل ما قيل في عددهم خمسون ألفا والأكثر أنّهم يزيدون على خمسمائة ألف ثم دفن في مقبرة الصوفيّة قبل العصر بقليل.(2)

5- شيوخه وتلاميذه:

    شيوخه:

     شيوخ ابن تيمية الذين سمع منهم أكثر من مائتي شيخ، ومنهم أبوه الشيخ عبد الحليم بن تيمية الحنبلي والشيخ   

(1)- انظر: نفس المصدر، بالتصرف.

(2)- انظر: ابن كثير، البداية النهاية، ج14/ص47-96، 141، وابن عبد الهادي، العقود الدرية،ص248-ص369،

 ابن تيمية/wiki/ar.wikipedia.org، بالتصرف.

 أحمد بن الدائم المقدسي والشيخ  زين الدين ابن المنجا والشيخ مجد الدين ابن عساكر والشيخ يحيى بن صيرفي وغيرهم.(1)

تلاميذه:(2)

1-   شمس الدين ابن قيم الجوزية وهو من أشهر تلاميذه ولازمه 16 عاما وسجن أيضا في القلعة منفردا عن ابن تيمية وخرج منها بعد وفاة ابن تيمية.

2-  أبو عبد الله محمّد الذهبي صاحب (سير أعلام النبلاء)

3-  إسماعيل بن عمر بن كثير. صاحب التفسير وكتاب (البداية والنهاية)

4-  محمّد بن عبد الهادي المقدسي.

5-  أبو العباس أحمد بن الحسن الفارسي المشهور بقاضي الجبل.

6-  زين الدين عمر الشهير بابن الوردي.

7-  علم الدين البرزالي.

8-  فاطمة بنت عباس البغدادية.

    وغيرهم.      

6- أقوال العلماء فيه:

    اختلفت أنظار العلماء في أحمد بن تيمية اختلافا شديدا، و نذكر هنا شيئا من كلمات المادحين والذامين ولا نستقصي، إذ يطول الكلام عندئذ.

كلمات المادحين:

1- وصفه تلميذه الذهبي(المتوفى749هـ) قائلا: "و صنّف في فنون،  ولعلّ تأليفه تبلغ ثلاثمائة مجلدة، وكان قوّالا بالحق، نهّاء عن المنكر، ذا سطوة وإقدام وعدم مداراة."(3)

2- قال تلميذه ابن عبد الهادي: "هو الشيخ الإمام الربّاني، إمام الأئمة، ومفتي الأمة، وبحر العلوم، سيد الحفاظ،     

(1)- انظر: محمد كاظم موسوي بجنورودى، دائرة المعارف بزرگ اسلامى، مركز دائرة المعارف بزرگ اسلامى، تهران،1374ش، چ2، ج3، مدخل:"ابن تيميه"، ص171، و ابن تيمية/wiki/ar.wikipedia.org، بالتصرف.

(2)- ابن تيمية/wiki/ar.wikipedia.org، بالتصرف.

(3)- الكتبي، محمد شاكر، فوات الوفيات، دار صادر، بيروت، ج1/ص75، نقلا عن الذهبي.

وفارس المعاني والألفاظ، فريد العصر وقريع الدهر، شيخ الإسلام، بركة الأنام وعلامة الزمان، وترجمان القرآن، علم الزهاد وأوحد العباد، قامع المبتدعين وآخر المجتهدين تقي الدين أبو العباس أحمد بن الشيخ الإمام العلامة شهاب الدين أبي المحاسن عبد الحليم ابن الشيخ الإمام العلامة شيخ الإسلام مجد الدين أبي البركات عبد السلام بن أبي محمد عبد الله بن أبي القاسم الخضر بن محمد بن الخضر بن علي بن عبد الله ابن تيمية الحراني، نزيل دمشق وصاحب التصانيف التي لم يسبق إلى مثلها...."(1)

كلمات القادحين:

1- يقول شهاب الدين ابن حجر الهيثمي(المتوفى974هـ): "ابن تيمية عبد خزله الله، وأضلّه وأعماه وأصمّه وأذلّه، بذلك صرّح الأئمة الذين بيّنوا فساد أحواله وكذب أقواله...."(2)

2- تكلم علي بن عبد الكافي السبكي(المتوفى756هـ) في خطبة كتابه" الدرة المضية في الرد على ابن تيمية": "لما

أحدث ابن تيمية ما أحدث في أصول العقائد، ونقض من دعائم الإسلام والأركان والمعاقد، بعد أن كان مستترا بتبعية الكتاب والسنّة مظهرا أنّه داع إلى الحق، هاد إلى الجنة، فخرج عن الاتباع إلى الابتداع، وشذّ عن جماعة المسلمين بمخالفة الإجماع، وقال بما يقتضي الجسمية والتركيب في الذات المقدّسة...."(3)

7- آثاره العلمية:(4)

   لابن تيمية موروث كبير من المؤلفات كما قال الذهبي: "لعل فتاويه في الفنون تبلغ ثلاث مائة مجلد، لا بل أكثر". وكان يكتب من حفظه وليس عنده مايحتاج إليه ويراجعه من الكتب. وكان سريع الاستحضار للآيات كما قال تلميذه ابن عبد الهادي: "أملى شيخنا المسألة المعروفة بالحموية بين الظهر والعصر". وكان يكتب بخط سريع في غاية التعليق والإغلاق. ذكر ابن القيّم الجوزية في نونيته طائفة من أسماء مؤلفات ابن تيمية ومدحها. وبلغت عدد المؤلفات المذكورة في كتاب (أسماء مؤلفات ابن تيمية) حوالي 330 مؤلفا. وجمعت كثير منها في مجموع الفتاوى ‏ وطبعت في 37 مجلدا. أهمّ منها هي:

(1)- ابن عبد الهادي، العقود الدرّية من مناقب ابن تيمية، ص2.

(2)- ابن حجر، الهيثمي، الفتاوى الحديثة، طبع مصر، ص86.

(3)- السبكي، علي بن عبد الكافي، الرسائل السبكية، دار عالم الكتب، بيروت، 1403هـ، ص121.

(4)- انظر: ابن تيمية/wiki/ar.wikipedia.org، بالتصرف.

1-    اقتضاء الصراط المستقيم.

2-    بيان تلبيس الجهمية.

3-    الجواب الصحيح لمن بدَّل دين المسيح.

4-    الرد على المنطقيين.

5-    درء تعارض العقل والنقل.

6-    الرسالة التدمرية.

7-    الرسالة العرشية.

8-    العقيدة الواسطية.

9-    الفتوى الحموية.

10-    الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان.

11-    قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة.

12-    منهاج السنّة النبويّة.

الفصل الثاني: النفس عند ابن تيمية

1- تعريف النفس:

لغة:

       كلمة النفس في اللغة هي الروح، ذات الشيء، حقيقة الشيء، الهواء الخارج من البدن والهواء الدّاخل فيه، وجمعها النفوس والأنفس.(1)  ويشير إلى ذلك ابن تيمية أيضا بقوله: "لفظ  الرُّوح وَالنَّفْس  يُعَبَّرُ بهما عن عِدَّة مَعَان : فَيُرَادُ بالروحِ الْهَوَاءُ الْخَارِجُ مِنْ الْبَدَن وَالْهَوَاءُ الدَّاخِلُ فِيهِ وَيُرَادُ بِالرُّوح الْبُخَار الْخَارِج مِنْ تَجْوِيفِ الْقَلْبِ مِنْ سويداه السَّارِي فِي الْعُرُوقِ وَهُوَ الَّذِي تُسَمِّيهِ الْأَطِبَّاءُ الرُّوحَ وَيُسَمَّى الرُّوحُ الْحَيَوَانِيّ . وَيُرَادُ بِنَفْسِ الشَّيءِ ذَاتُهُ وَعَيْنُهُ كَمَا يُقَالُ رَأَيْت زَيْدًا نَفْسَهُ وَعَيْنَهُ. وَقَدْ يُرَادُ بِلَفْظِ النَّفْسِ الدَّمُ الَّذِي يَكُونُ فِي الْحَيَوَانِ كَقَوْلِ الْفُقَهَاءِ " مَا لَهُ نَفْسٌ سَائِلَةٌ وَمَا لَيْسَ لَهُ نَفْسٌ سَائِلَةٌ " وَمِنْهُ يُقَالُ نَفِسَتْ الْمَرْأَةُ إذَا حَاضَتْ وَنَفِسَتْ  إذَا نَفَّسَهَا وَلَدُهَا وَمِنْهُ قِيلَ النُّفَسَاءُ ."(2)

اصطلاحا:

  يعرّف ابن تيمية النفس بأنّ" الروح المدبرة للبدن التي تفارقه بالموت هي الروح المنفوخة فيه وهي النفس التي تفارقه بالموت."(3)

النفس هي الروح عند ابن تيمية ولا يعرّفها مثل ما عرّفها الفارابي وابن سينا وغير ذلك من العلماء.

2- إمكان معرفة النفس:

  الروح إذا كانت موجودة حيّة، عالمة قادرة، سميعة بصيرة، تصعد وتنزل، وتذهب وتجيء، ونحو ذلك من الصفات، والمعقول قاصرة عن تكييفها وتحديدها، لأنّهم لم يشاهدوا لها نظيرا. والشيء إنما تدرك حقيقته بمشاهدته أو مشاهدة نظيره.(4)ولهذا يقال إنّه لايعلم كيفيتها.(5) دليله قوله تعالى:(ويسألونك عن الروح). يقول فيها إنّ المراد من الروح روح الإنسان. والنص لم يخبر بكيفيتها، لأنّ الإخبار بالكيفية إنما يكون فيما له نظير يماثله،

(1)- انظر: الراغب الأصفهاني، مفردات ألفاظ القرآن، تح: صفوان عدنان الداؤدي، دار القلم، دمشق، والدار الشامية، بيروت-لبنان، 1416هـ، الطبعة الأولى، ذيل المادة(نفس)، ص819، وابن منظور، لسان العرب، التعليق: علي السيري، دار الإحياء التراث العربي، بيروت، 1408هـ، الطبعة الأولى، ذيل المادة(نفس)، ص233.

(2)- انظر: ابن تيمية، مجموع الفتاوى، جمع و ترتيب: عبد الرحمن بن محمد بن قاسم وابنه محمد، مجمع الملك فهد، المملكة العربية السعودية، 1425هـ، ج9/ص292، بالتصرف.

(3)- نفس المصدر: ج9/ص289.

(4)- نفس المصدر: ج3/ص33، بالتصرف. (5)- نفس المصدر: ج9/ص295، بالتصرف.

وليست الروح من جنس ما نشهده من الأعيان، فلا يمكن تعريفنا بكيفيتها وإن كانت لها كيفية في نفسها.(1)

 3- إثبات وجود النفس:

  ذكر ابن تيمية في سورة القيامة أنّ المراد من النفس اللوامة هي نفس الإنسان التي تلومه إمّا في الدنيا أو في الآخرة. يقول: قوله تعالى:(ولا أقسم بالنفس اللوامة)(2): وهي نفس الإنسان. وقد قيل: إنّ النفس تكون لوامة وغير لوامة، وليس كذلك. بل نفس كلّ إنسان لوامة، فإنّه ليس بشر إلا يلوم نفسه ويندم إمّا في الدنيا و إمّا في الآخرة، فهذا إثبات النفس. ثمّ ذكر الموت فقال:(كلا إذا بلغت التراقي)(3) وهذا إثبات النفس، وأنّها تبلغ التراقي كما قال هناك:(فلولا إذا بلغت الحلقوم)(4) والتراقي متصلة بالحلقوم.(5)

4- عدم جوهرية النفس:

   يقول ابن تيمية: إنّ الروح عين قائمة بنفسها، تفارق البدن، وتنعم وتعذب، وليست هي البدن، ولا جزءا من أجزائه.(6) دليله على ذلك قوله تعالى:(والتفت الساق بالساق. إلى ربّك يومئذ المساق)(7). "فدلّ على نفس موجودة قائمة بنفسها تساق إلى ربّها، والعرض القائم بغيره لا يساق، ولا بدن الميت. فهذا نص في إثبات نفس تفارق البدن تساق إلى ربّها، كما نطقت بذلك الأحاديث المستفيضة في قبض روح المؤمن و روح الكافر."(8)

ابن تيمية لا يقول بجوهرية النفس، لأنّه لا يقبل المنطق والفلسفة، ويقول: إنّ أقسام الجوهر خمسة كما زعموه. مع أن ذلك ليس بصحيح، ولا يثبت مما ذكروه إلا الجسم، وأمّا المادة والصورة والنفس والعقل، فلا يثبت لها حقيقة في الخارج، إلا أن يكون جسما أو عرضا. ولكن ما يثبتونه يعود إلى أمر مقدر في النفس، لا في الخارج. والصواب أنّها ليست مركبة من الجواهر المفردة ولا من المادة والصورة، وليست من جنس الأجسام المتحيزات المشهودة المعهودة. وأمّا الإشارة إليها فإنّه يشار إليها وتصعد وتنزل وتخرج من البدن وتسلّ منه كما جاءت بذلك النّصوص ودلّت عليه الشّواهد العقليّة. (9)

 (1)- ابن تيمية، درء تعارض العقل والنقل، تح: محمد رشاد سالم، جامعة محمد بن سعود الإسلامية، المملكة العربية السعودية، 1411هـ، الطبعة الثانية، ج10/ص293، بالتصرف.

 (2)- القيامة،2.

 (3)- القيامة،26.

 (4)- الواقعة،83.

 (5)- انظر: ابن تيمية، مجموع الفتاوى،ج4/ص264، بالتصوف.

 (6)- انظر: نفس المصدر: ج17/ص341، ج4/ص227، بالتصرف.

 (7)- القيامة،29-30.

 (8)- ابن تيمية، مجموع الفتاوى، ج4/ص265. (9)- نفس المصدر: ج9/ص302، وانظر: ابن تيمية، الردّ على المنطقيين، إدارة ترجمان السنّة، لاهور، باكستان، 1397هـ، الطبعة الثالثة، ص131، بالتصرف.

5- أنواع النفس:

   يقول ابن تيمية:"وقد قال طائفة من المتفلسفة الأطباء: إنّ النفوس ثلاثة: نباتية محلّها الكبد، وحيوانية محلّها القلب، وناطقية محلّها الدماغ. وهذا إن أرادوا به أنّها ثلاث قوى تتعلّق بهذه الأعضاء، فهذا مسلم، وإن أرادو أنّها ثلاثة أعيان قائمة بأنفسها فهذا غلط بيّن."(1)

 6- أنواع النفس الناطقة:

    يبيّن ابن تيمية  بأنّ" لَفْظ  النَّفْسِ  يُعَبَّرُ بِهِ عَنْ النَّفْسِ الْمُتَّبِعَةِ لِهَوَاهَا أَوْ عَنْ اتِّبَاعِهَا الْهَوَى بِخِلَافِ لَفْظِ الرُّوح فَإِنَّهَا لَا يُعَبَّرُ بهَا عَنْ ذَلِكَ إذْ كَانَ لَفْظُ  الرُّوح  لَيْسَ هُوَ بِاعْتِبَار تَدْبِيرِهَا لِلْبَدَنِ. وَيُقَالُ النُّفُوسُ ثَلَاثَة أَنْوَاعٍ : وَهِيَ  النَّفْسُ الْأَمَّارَةُ بِالسُّوءِ  الَّتِي يَغْلِبُ عَلَيْهَا اتِّبَاعُ هَوَاهَا بِفِعْلِ الذُّنُوبِ وَالْمَعَاصِي . و النَّفْسُ اللَّوَّامَةُ  وَهِيَ الَّتِي تُذْنِبُ وَتَتُوبُ فَعَنْهَا خَيْرٌ وَشَرٌّ لَكِنْ إذَا فَعَلَتْ الشَّرَّ تَابَتْ وَأَنَابَتْ فَتُسَمَّى لَوَّامَةً لِأَنَّهَا تَلُومُ صَاحِبَهَا عَلَى الذُّنُوبِ وَلِأَنَّهَا تَتَلَوَّمُ أَيْ تَتَرَدَّدُ بَيْنَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ . والنَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّة وَهِيَ الَّتِي تُحِبُّ الْخَيْرَ وَالْحَسَنَاتِ وَتُرِيدُهُ وَتُبْغِضُ الشَّرَّ وَالسَّيِّئَاتِ وَتَكْرَهُ ذَلِكَ وَقَدْ صَارَ ذَلِكَ لَهَا خُلُقًا وَعَادَةً وَمَلَكَةً . فَهَذِهِ صِفَاتٌ وَأَحْوَالٌ لِذَاتٍ وَاحِدَةٍ وَإِلَّا فَالنَّفْسُ الَّتِي لِكُلِّ إنْسَانٍ هِيَ نَفْسٌ وَاحِدَةٌ وَهَذَا أَمْرٌ يَجِدُهُ الْإِنْسَانُ مِنْ نَفْسِهِ".(2) 

 نفهم من عبارته أنّه يفرّق بين الروح والنفس بأنّ الروح من حيث تعلّقه بالبدن يسمّى النفس، والنفس من عدم اعتبار تعلّقه بالبدن يسمى الروح. وأقسام النفس هي ثلاثة : أَمّارة ، ومطمئنة ، ولَوَّامة.

7- إنكار تجرّد النفس الناطقة:

   ذكر ابن تيمية رواية لإثبات عدم تجرّد النفس. وهي: " وقد روي عن عبد الله بن عمرو أنّه قال: أرواح المؤمنين في أجواف طير خضر كالزرازير، يتعارفون فيها ويرزقون من ثمرها، قال: وقال بعض الناس: أرواح الشهداء في أجواف طير خضر، تأوي إلى قناديل في الجنّة معلقة بالعرش."(3) ثم يقول: إنّ المتفلسفة القائلين بأنّ النفس الناطقة ليست جسما: عمدتهم أنّه يقوم بها ما لا ينقسم، وما لا ينقسم لا يقوم إلا بما لا ينقسم، فقد اتفقت الطوائف على أنّ الصفة إذا لم تنقسم كان محلّها لا ينقسم. أجابهم ابن تيمية وقال:" قيام العلم بالنفس كقيام الحياة والقدرة والإرادة والحبّ والبغض، وسائر الأعراض المشروطة بالحياة. وهم يسلّمون أنّ هذه الصفات

(1)- ابن تيمية، مجموع الفتاوى، ج9/ص294.

(2)- نفس المصدر: ج9/ص294.

(3)- نفس المصدر: ج4/ص224.

تقوم بالجسم، فما كان جوابا عن قيام هذه الصفات بالنفس، كان جوابا عن قيام العلم."(1) والكتاب والسنّة مملوء بإثبات صفات النفس الدالة على أنّه يشار إليها، وأنّها بحكم اصطلاحهم جسم، فإنّه أخبر بقبضها ورجوعها وصعودها، ودخولها في عباده، ودخولها جنّته، ودخولها البدن وخروجها منه، وعروجها إلى السماء، وأنّها في حواصل طير خضر، وأمثال ذلك من الصفات التي تقولون أنتم: إنّها لا تكون إلا لجسم.(2)

يقول في مكان آخر: إنّ أبي المعالي خالف هؤلاء وأحسن في مخالفتهم فقال: إنّ الروح أجسام لطيفة مشابكة للأجسام المحسوسة، أجرى الله العادة بحياة الأجساد ما استمرّت مشابكتها لها، فإذا فارقتها تعقب الموت الحياة في استمرار العادة.(3) ولكن ابن تيمية في مكان آخر يناقض نفسها بعبارة: "والروح تحسّ بأشياء لا يحسّ بها، كما يحسّ من يحصل له نوع تجريد، بالنوم وغيره، بأمور لا يحسّ بها غيره. ثمّ الروح بعد الموت تكون أقوى تجرّدا، فترى بعد الموت وتحسّ بأمور لا تراها الآن ولا تحسّ بها."(4) 

8- حدوث النفس:

    يقول ابن تيمية: "واعلم أن القائلين بقدم الروح صنفان: صنف من الصابئة الفلاسفة يقولون: هي قديمة أزلية لكن ليست من ذات الربّ كما يقولون ذلك: في العقول والنفوس الفلكية و يزعم من دخل من أهل الملل فيهم أنّها هي الملائكة. وصنف من زنادقة هذه الأمّة وضلالها من المتصوّفة والمتكلمة والمحدّثة يزعمون أنّها من ذات الله وهؤلاء أشرّ قولا من أولئك وهؤلاء جعلوا الآدميّ نصفين: نصف لاهوت وهو روحه. ونصف ناسوت وهو جسده: نصفه ربّ ونصفه عبد."(5)

يذكر في مكان آخر: "من الطرق التي يعلم بها حدوث كل ما سوى الله هي أن يقال لو كان فيما سوى الله شيء قديم لكان صادرا عن علة تامة، موجبه بذاتها، مستلزمه لمعلولها، سواء ثبت له مشيئة أو اختيار، أو لم يثبت، فإنّ القديم الأزلي الممكن الذي لا يوجد بنفسه لا يتصور وجوده إن لم يكن له في الأزل مقتض تام يستلزم ثبوته. وأمّا ما يقوله الفلاسفة القائلون بأنّ العالم قديم صدر عن علة موجبه بذاته، وأنّه صدر عنه عقل، ثم عقل، ثم عقل، إلى تمام عشرة عقول، وتسعة أنفس. وقد يجعلون العقل بمنزلة الذكر، والنفس بمنزلة الأنثى فهؤلاء قولهم أفسد من قول مشركي العرب وأهل الكتاب عقلا وشرعا، ودلالة القرآن على فساده أبلغ."(6)

(1)- ابن تيمية، درء تعارض العقل والنقل، ج10/ص293، وانظر: ج4/ص193.

(2)- نفس المصدر: ج10/ص292، بالتصرف.

(3)- انظر: ابن تيمية، مجموع الفتاوى، ج17/ص341، بالتصرف.

(4)- ابن تيمية، درء تعارض العقل والنقل، ج6/ص108.

(5)- ابن تيمية، مجموع الفتاوى، ج4/ص222.

(6)- نفس المصدر: ج12/ص220، وانظر: ج17/ص286.

روح الآدمي عند ابن تيمية مخلوقة، مبدعة باتفاق سلف الأمة وأئمتها وسائر أهل السنة، وقد حكى إجماع العلماء على أنّها مخلوقة غير واحد من أئمة المسلمين.(1)

9- قوى النفس:

      قوى النفس الإنسانية عند ابن تيمية ثلاث: " قُوَّةُ الْعَقْلِ وَقُوَّةُ الْغَضَبِ وَقُوَّةُ الشَّهْوَةِ. فَأَعْلاهَا الْقُوَّةُ الْعَقْلِيَّةُ - الَّتِي يَخْتَصُّ بِهَا الْإِنْسَانُ دُونَ سَائِرِ الدَّوَابِّ وَتَشْرَكُهُ فِيهَا الْمَلَائِكَةُ كَمَا قَالَ أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ الْعَزِيزِ مِنْ أَصْحَابِنَا وَغَيْرُهُ: خُلِقَ لِلْمَلَائِكَةِ عُقُولٌ بِلَا شَهْوَةٍ، وَخُلِقَ لِلْبَهَائِمِ شَهْوَةٌ بِلَا عَقْلٍ وَخُلِقَ لِلْإِنْسَانِ عَقْلٌ وَشَهْوَةٌ فَمَنْ غَلَبَ عَقْلُهُ شَهْوَتَهُ فَهُوَ خَيْرٌ مِنْ الْمَلَائِكَةِ وَمَنْ غَلَبَتْ شَهْوَتُهُ عَقْلَهُ فَالْبَهَائِمُ خَيْرٌ مِنْهُ. ثُمَّ الْقُوَّةُ الْغَضَبِيَّةُ الَّتِي فِيهَا دَفْعُ الْمَضَرَّةِ ثُمَّ الْقُوَّةُ الشهوية الَّتِي فِيهَا جَلْبُ الْمَنْفَعَة. وَمِنْ الطبائعيين مَنْ يَقُول: الْقُوَّةُ الْغَضَبِيَّةُ هِيَ الْحَيَوَانِيَّةُ؛ لِاخْتِصَاصِ الْحَيَوَانِ بِهَا دُونَ النَّبَات. وَالْقُوَّةُ الشهوية هِيَ النَّبَاتِيَّةُ لِاشْتِرَاكِ الْحَيَوَانِ وَالنَّبَاتِ فِيهَا. واخْتِصَاصُ النَّبَاتِ بِهَا دُونَ الْجَمَاد. لَكِنْ يُقَالُ: إنْ أَرَادَ أَنَّ نَفْسَ الشَّهْوَةِ مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَ النَّبَاتِ وَالْحَيَوَانِ فَلَيْسَ كَذَلِكَ فَإِنَّ النَّبَاتَ لَيْسَ فِيهِ حَنِينٌ وَلَا حَرَكَةٌ إرَادِيَّةٌ وَلَا شَهْوَةٌ وَلَا غَضَبٌ. وَإِنْ أَرَادَ نَفْسَ النُّمُوِّ وَالِاغْتِذَاءِ فَهَذَا تَابِعٌ لِلشَّهْوَةِ وَمُوجِبُهَا. وَلَهُ نَظِيرٌ فِي الْغَضَبِ. وَهُوَ أَنَّ مُوجَبَ الْغَضَبِ وَتَابِعَهُ هُوَ الدَّفْعُ وَالْمَنْعُ وَهَذَا مَعْنَى مَوْجُودٌ فِي سَائِرِ الْأَجْسَامِ الصُّلْبَةِ الْقَوِيَّةِ فَذَاتُ الشَّهْوَةِ وَالْغَضَبِ مُخْتَصٌّ بِالْحَيِّ. وَأَمَّا مُوجِبُهُمَا مِنْ الِاعْتِدَاءِ وَالدَّفْعِ فَمُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ النَّبَاتِ الْقَوِيِّ فَقُوَّةُ الدَّفْعِ وَالْمَنْعِ مَوْجُودٌ فِي النَّبَاتِ الصُّلْبِ الْقَوِيِّ دُونَ اللَّيِّنِ الرَّطْبِ فَتَكُونُ قُوَّةُ الدَّفْعِ مُخْتَصَّةٌ بِبَعْضِ النَّبَاتِ؛ لَكِنَّهُ مَوْجُودٌ فِي سَائِرِ الْأَجْسَامِ الصُّلْبَةِ فَبَيْنَ الشَّهْوَةِ وَالْغَضَبِ عُمُومٌ وَخُصُوصٌ .

        وَسَبَبُ ذَلِكَ: أَنَّ قُوَى الْأَفْعَالِ فِي النَّفْسِ إمَّا جَذْبٌ وَإِمَّا دَفْعٌ فَالْقُوَّةُ الْجَاذِبَةُ الْجَالِبَةُ لِلْمُلَائِمِ هِيَ الشَّهْوَةُ وَجِنْسُهَا: مِنْ الْمَحَبَّةِ وَالْإِرَادَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَالْقُوَّةُ الدَّافِعَةُ الْمَانِعَةُ لِلْمُنَافِي هِيَ الْغَضَبُ وَجِنْسُهَا: مِنْ الْبُغْضِ وَالْكَرَاهَةِ وَهَذِهِ الْقُوَّةُ بِاعْتِبَارِ الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَ الْإِنْسَانِ وَالْبَهَائِمِ هِيَ مُطْلَقُ الشَّهْوَةِ وَالْغَضَبِ وَبِاعْتِبَارِ مَا يَخْتَصُّ بِهِ الْإِنْسَانُ الْعَقْلُ وَالْإِيمَانُ وَالْقُوَى الرُّوحَانِيَّة ُ الْمُعْتَرِضَةُ. فَالْكُفْرُ مُتَعَلِّقٌ بِالْقُوَّةِ الْعَقْلِيَّةِ النَّاطِقَةِ الْإِيمَانِيَّة؛ وَلِهَذَا لَا يُوصَفُ بِهِ مَنْ لَا تَمْيِيزَ لَهُ وَالْقَتْلُ نَاشِئٌ عَنْ الْقُوَّةِ الْغَضَبِيَّةِ وَعُدْوَانٍ فِيهَا. وَالزِّنَا عَنْ الْقُوَّةِ الشَّهْوَانِيَّة. فَالْكُفْرُ اعْتِدَاءٌ وَفَسَادٌ فِي الْقُوَّةِ الْعَقْلِيَّةِ الْإِنْسَانِيَّةِ وَقَتْلُ النَّفْسِ اعْتِدَاءٌ وَفَسَادٌ فِي الْقُوَّةِ الْغَضَبِيَّةِ وَالزِّنَا اعْتِدَاءٌ وَفَسَادٌ فِي الْقُوَّةِ الشَّهْوَانِيَّةِ. وَمِنْ وَجْهٍ آخَرَ ظَاهِرٍ: أَنَّ الْخَلْقَ خَلَقَهُمْ اللَّهُ لِعِبَادَتِهِ وَقِوَامُ الشَّخْصِ بِجَسَدِهِ وَقِوَامُ النَّوْعِ بِالنِّكَاحِ وَالنَّسْلِ فَالْكُفْرُ فَسَادُ الْمَقْصُودِ الَّذِي لَهُ خُلِقُوا وَقَتْلُ النَّفْسِ فَسَادُ النُّفُوسِ الْمَوْجُودَةِ وَالزِّنَا فَسَادٌ فِي الْمُنْتَظَرِ مِنْ

(1)- انظر: نفس المصدر: ج4/ص216، بالتصرف.

النَّوْع. فَذَاكَ إفْسَادُ الْمَوْجُودِ وَذَاكَ إفْسَادٌ لِمَا لَمْ يُوجَدْ بِمَنْزِلَةِ مَنْ أَفْسَدَ مَالًا مَوْجُودًا أَوْ مَنَعَ الْمُنْعَقِدَ أَنْ يُوجَدَ وَإِعْدَامُ الْمَوْجُودِ أَعْظَمُ فَسَادًا فَلِهَذَا كَانَ التَّرْتِيبُ كَذَلِكَ. وَمِنْ وَجْهٍ ثَالِثٍ أَنَّ الْكُفْرَ فَسَادُ الْقَلْبِ وَالرُّوحِ الَّذِي هُوَ مَلِكُ الْجَسَدِ وَالْقَتْلُ إفْسَادٌ لِلْجَسَدِ الْحَامِلِ لَهُ وَإِتْلَافُ الْمَوْجُودِ. وَأَمَّا الزِّنَا فَهُوَ فَسَادٌ فِي صِفَةِ الْوُجُودِ لَا فِي أَصْلِهِ لَكِنَّ هَذَا يَخْتَصُّ بِالزِّنَا وَمِنْ هُنَا يَتَبَيَّنُ أَنَّ اللِّوَاطَ أَعْظَمُ فَسَادًا مِنْ الزِّنَا."(1)

يقول ابن تيمية في مكان آخر: وكذلك يعبّرون بلفظ (الملائكة والشياطين) عن قوى النفس المحمودة والمذمومة. وبالضرورة من الدين أن الرسل أرادوا بالملائكة والشياطين أعيانا قائمة بأنفسها متميزين لا مجرّد أعراض قائمة بنفس الإنسان، كالقوّة الجاذبة والماسكة والدافعة والهاضمة، وقوّة الشهوة والغضب، وإن كان قد يسمّى بعض الأعراض باسم صاحبه. وحرّم الدّم المسفوح لأنّه مجمع قوى الشهوية والغضبية وزيادته توجب طغيان هذه القوى وهو مجرى الشيطان من البدن كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إنّ الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدّم."(2)

10- منافع هذه القوى:

   "الْقُوَّةُ الْمَلَكِيَّةُ وَالْبَهِيمِيَّةُ والسبعيّة والشيطانيّة فَإِنَّ الْمَلَكِيَّةَ فِيهَا الْعِلْمُ النَّافِعُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ وَالْبَهِيمِيَّةَ فِيهَا الشَّهَوَاتُ كَالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ والسبعية فِيهَا الْغَضَبُ وَهُوَ دَفْعُ الْمُؤْذِي وَأَمَّا الشَّيْطَانِيَّةُ فَشَرٌّ مَحْضٌ لَيْسَ فِيهَا جَلْبُ مَنْفَعَةٍ وَلَا دَفْعُ مَضَرَّةٍ. وَالْفَلَاسِفَة وَنَحْوُهُمْ مِمَّنْ لَا يَعْرِفُ الْجِنَّ وَالشَّيَاطِينَ لَا يَعْرِفُونَ هَذِهِ وَإِنَّمَا يَعْرِفُونَ الشَّهْوَةَ وَالْغَضَبَ وَالشَّهْوَةُ وَالْغَضَبُ خُلِقَا لِمَصْلَحَةِ وَمَنْفَعَةٍ؛ لَكِنَّ الْمَذْمُومَ هُوَ الْعُدْوَانُ فِيهِمَا وَأَمَّا الشَّيْطَانُ فَيَأْمُرُ بِالشَّرِّ الَّذِي لَا مَنْفَعَةَ فِيهِ وَيُحِبُّ ذَلِكَ كَمَا فَعَلَ إبْلِيسُ بِآدَمَ لَمَّا وَسْوَسَ لَهُ."(3)

11- علاقة النفس بقواها:

   فالعقل قائم بنفس الإنسان التي تعقل، وأمّا من البدن فهو متعلق بقلبه كما قال تعالى: (أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها)(4) لكنّ لفظ القلب قد يراد به المضغة الصنوبرية الشكل التي في الجانب الأيسر من البدن، التي جوفها علقة سوداء. وقد يراد بالقلب باطن الإنسان مطلقا، فإنّ قلب الشيء باطنه، كقلب الحنطة واللوزة والجوزة ونحو ذلك، ومنه سمّي القليب قليبا لأنّه أخرج قلبه وهو باطنه، وعلى هذا فإذا أريد بالقلب هذا

(1)- نفس المصدر: ج15/ص428.

(2)- انظر: ابن تيمية، درء تعارض العقل والنقل، ج5/ص387، و ابن تيمية، رسالة جواب أهل العلم والإيمان أنّ قل هو الله أحد تعدل ثلث القرآن، ص85، بالتصرّف.

(3)- ابن تيمية، مجموع الفتاوى، ج13/ص83.

(4)- الحج،46.

 

فالعقل متعلق بدماغه أيضا. والتحقيق أنّ الروح التي هي النفس لها تعلق بهذا وهذا. وما يتّصف من العقل به يتعلّق بهذا وهذا. لكنّ مبدأ الفكر والنظر في الدّماغ، ومبدأ الإرادة في القلب.(1)

12- علاقة النفس بالبدن:

  يتّهم ابن تيمية المتكلمين بأنّ كثيرا من المتكلّمين زعموا أنّ النفس عرض قائم بالبدن أو جزء من اجزاء البدن لكن هذا مخالف للكتاب والسنّة وإجماع السلف والخلف ولقول جماهير العقلاء من جميع الأمم ومخالف للأدلّة العقليّة.(2) والروح المدبرة للبدن التي تفارقه بالموت هي الروح المنفوخة فيه وهي النفس التي تفارقه بالموت. من هنا نتيقّن أنّ الروح عين موجودة غير البدن، وأنّها ليست مماثلة له، وهي موصوفة بما نطقت به النصوص حقيقة لا مجازا.(3)

يفسّر هذا الكلام في مكان آخر: "قد جعل الله بينهما(الروح والبدن) من الاتحاد والائتلاف ما لا يعرف له نظير يقاس به، ولكن دخول الروح فيه ليس هو مماثلا لدخول شيء من الأجسام المشهودة، فليس دخولها فيه كدخول الماء ونحوه من المائعات في الأوعية، فإن هذه إنّما تلاقي السطح الداخل من الأوعية، لا بطونها ولا ظهورها، وإنّما يلاقي الأوعية منها أطرافها دون أوسطها، وليس كذلك الروح والبدن، بل الروح متعلّقة بجميع أجزاء البدن باطنه وظاهره وكذلك دخولها فيها ليس كدخولها الطعام والشراب في بدن الآكل، فإنّ ذلك له مجار معروفة، وهو مستحيل -إلى غير ذلك من صفاته- ولا جريانها في البدن كجريان الدم، فإنّ الدم يكون في بعض البدن دون بعض. ففي الجملة كل ما يذكر من النظائر لا يكون كل شيء منه متعلّقا بالآخر، بخلاف الروح والبدن، لكن هي مع هذا في البدن قد ولجت فيه، وتخرج منه وقت الموت، وتسل منه شيئا فشيئا فتخرج من البدن شيئا فشيئا لا تفارقه كما يفارق الملك مدينته التي يدبرها، والناس لها لم يشهدوا لها نظيرا عسر عليهم التعبير عن حقيقتها، وهذا تنبيه لهم على أنّ رب العالمين لم يعرفوا حقيقة، ولا تصورها كيفيته سبحانه وتعالى، وأن ما يضاف إليه من صفاته هو على ما يليق به جلّ جلاله. فإنّ الروح التي هي بعض عبيده توصف بأنّها تعرج إذا نام الإنسان، وتسجد تحت العرش، وهي مع هذا في بدن صاحبها لم تفارقه بالكلّية، والإنسان في نومه يحسّ بتصرّفات روحه يصرفات تؤثر في بدنه، فهذا الصعود الذي توصف به الروح لا يماثل صعود المشهودات، فإنّها إذا صعدت إلى مكان فارقت

 

(1)- ابن تيمية، مجموع الفتاوى، ج9/303-304، بالتصرّف.

(2)- انظر: ابن تيمية، رسالة في تفسير سورة الإخلاص، ج1/ص58، بالتصرّف.

(3)- ابن تيمية، مجموع الفتاوى، ج9/ ص289، وانظر: ابن تيمية، الفتوى الحموية الكبرى، تح: حمد بن عبد المحسن التويجري، دار الصميعي، الرياض، 1425هـ، الطبعة الثانية، ص547، بالتصرّف.

 

 

الأول بالكلّية، وحركتها إلى العلوّ حركة انتقال من مكان إلى مكان، وحركة الروح بعروجها وسجودها ليس كذلك.(1)

13- كمال النفس:

     "تفرّق النَّاس فِي هَذَا الْمَقَام - الَّذِي هُوَ غَايَةُ مَطَالِبِ الْعِبَادِ - فَطَائِفَةٌ مِنْ الْفَلَاسِفَةِ وَنَحْوِهِمْ: يَظُنُّونَ أَنَّ كَمَالَ النَّفْسِ فِي مُجَرَّدِ الْعِلْمِ وَيَجْعَلُونَ الْعِلْمَ - الَّذِي بِهِ تَكْمُلُ مَا يَعْرِفُونَهُ هُمْ مِنْ - عِلْمِ مَا بَعْدَ الطَّبِيعَةِ وَيَجْعَلُونَ الْعِبَادَاتِ رِيَاضَةً لِأَخْلَاقِ النَّفْسِ حَتَّى تَسْتَعِدَّ لِلْعِلْمِ. فَتَصِيرُ النَّفْسُ عَالَمًا مُعْتَزِلًا مُوَازِيًا لِلْعَالَمِ الْمَوْجُودِ. وَهَؤُلَاءِ ضَالُّونَ؛ بَل كَافِرُونَ مِنْ وُجُوهٍ: مِنْهَا: أَنَّهُمْ اعْتَقَدُوا الْكَمَالَ مِنْ مُجَرَّدِ الْعِلْمِ كَمَا اعتَقَدَ جَهْمٌ والصالحي وَالْأَشْعَرِيُّ - فِي الْمَشْهُورِ مِنْ قَوْلَيْهِ - وَأَكْثَرُ أَتْبَاعِهِ: أَنَّ الْإِيمَانَ مُجَرَّدُ الْعِلْمِ؛ لَكِنَّ الْمُتَفَلْسِفَةَ أَسْوَأُ حَالًا مِنْ الْجَهْمِيَّة؛ فَإِنَّ الْجَهْمِيَّة يَجْعَلُونَ الْإِيمَانَ هُوَ الْعِلْمُ بِاَللَّهِ وَأُولَئِكَ يَجْعَلُونَ كَمَالَ النَّفْسِ: فِي أَنْ تَعْلَمَ الْوُجُودَ الْمُطْلَقَ مِنْ حَيْثُ هُوَ وُجُودٌ وَالْمُطْلَقُ بِشَرْطِ الْإِطْلَاقِ؛ إنَّمَا يَكُونُ فِي الْأَذْهَانِ لَا فِي الْأَعْيَانِ وَالْمُطْلَقُ لَا بِشَرْطِ لَا يُوجَدُ أَيْضًا فِي الْخَارِجِ إلَّا مُعَيَّنًا. وَإِنْ عَلِمُوا الْوُجُودَ الْكُلِّيَّ الْمُنْقَسِمَ إلَى وَاجِبٍ وَمُمْكِنٍ فَلَيْسَ لِمَعْلُومِ عِلْمِهِمْ وُجُودٌ فِي الْخَارِجِ وَهَكَذَا مَنْ تَصَوَّفَ وَتَأَلَّهَ عَلَى طَرِيقَتِهِمْ كَابْنِ عَرَبِيٍّ وَابْنِ سَبْعِينَ وَنَحْوِهِمَا. وَأَيْضًا: فَإِنَّ الْجَهْمِيَّة يُقِرُّونَ بِالرُّسُلِ وَبِمَا جَاءُوا بِهِ فَهُمْ فِي الْجُمْلَةِ يُقِرُّونَ بِأَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَغَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ؛ بِخِلَافِ الْمُتَفَلْسِفَة. وَبِالْجُمْلَة: فَكَمَالُ النَّفْسِ لَيْسَ فِي مُجَرَّدِ الْعِلْمِ بَلْ لَا بُدَّ مَعَ الْعِلْمِ بِاَللَّهِ مِنْ مَحَبَّتِهِ وَعِبَادَتِهِ وَالْإِنَابَةِ إلَيْهِ فَهَذَا عَمَلُ النَّفْسِ وَإِرَادَتُهَا وَدَالُّ عِلْمِهَا وَمَعْرِفَتِهَا. الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُمْ ظَنُّوا أَنَّ الْعِلْمَ الَّذِي تَكْمُلُ بِهِ النَّفْسُ هُوَ عِلْمُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُ جَهْلٌ لَا عِلْمٌ. الثَّالِثُ: أَنَّهُمْ لَمْ يَعْرِفُوا الْعِلْمَ الْإِلَهِيَّ الَّذِي جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ وَهُوَ الْعِلْمُ الْأَعْلَى؛ الَّذِي تَكْمُلُ بِهِ النَّفْسُ مَعَ الْعَمَلِ بِمُوجِبِهِ. الرَّابِعُ: أَنَّهُمْ يَرَوْنَ أَنَّهُ إذَا حَصَلَ لَهُمْ ذَاكَ الْعِلْمُ: سَقَطَتْ عَنْهُمْ وَاجِبَاتُ الشَّرْعِ وَأُبِيحَتْ لَهُمْ مُحَرَّمَاتُهُ وَهَذِهِ طَرِيقَةُ الْبَاطِنِيَّةِ مِنْ الْإِسْمَاعِيلِيَّة وَغَيْرِهِمْ؛ مِثْلُ أَبِي يَعْقُوبَ السجستاني صَاحِبِ الْأَقَالِيدِ الملكوتية وَأَتْبَاعِهِ وَطَرِيقَةُ مَنْ وَافَقَهُمْ مِنْ مَلَاحِدَةِ الصُّوفِيَّةِ الَّذِينَ يَتَأَوَّلُونَ قَوْلَهُ:(وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) أَنَّك تَعْمَلُ حَتَّى يَحْصُلَ لَك الْعِلْمُ فَإِذَا حَصَلَ الْعِلْمُ سَقَطَ عَنْك الْعَمَلُ وَقَدْ قِيلَ للجنيد إنَّ قَوْمًا يَقُولُونَ: إنَّهُمْ يُصَلُّونَ مِنْ طَرِيقِ الْبِرِّ إلَى أَنْ تَسْقُطَ عَنْهُمْ الْفَرَائِضُ وَتُبَاحَ لَهُمْ الْمَحَارِمُ - أَوْ نَحْوُ هَذَا الْكَلَامِ - فَقَالَ: الزِّنَا وَالسَّرِقَةُ وَشُرْبُ الْخَمْرِ: خَيْرٌ مِنْ هَذَا وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يَكُونُ طَلَبُهُ لِلْمُكَاشَفَةِ وَنَحْوِهَا مِنْ الْعِلْمِ: أَعْظَمَ مِنْ طَلَبِهِ لِمَا فَرَضَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَيَقُولُ فِي دُعَائِهِ: اللَّهُمَّ أَسْأَلُك الْعِصْمَةَ فِي الْحَرَكَاتِ وَالسَّكَنَاتِ وَالْخُطُوَاتِ وَالْإِرَادَاتِ وَالْكَلِمَاتِ؛ مِنْ الشُّكُوكِ؛ وَالظُّنُونِ؛ وَالْإِرَادَةِ؛ وَالْأَوْهَام السَّاتِرَةِ لِلْقُلُوبِ عَنْ مُطَالَعَةِ الْغُيُوبِ وَأَصْلُ الْمَسْأَلَة:  

 

 

(1)- انظر: ابن تيمية، مجموع الفتاوى، ج17/ص348-350، بالتصرف.

 

أَنَّ الْمُكْنَةَ الَّتِي هِيَ الْكَمَالُ عِنْدَهُمْ مِنْ الْمُكْنَةِ وَطَائِفَةٌ أُخْرَى: عِنْدَهُمْ أَنَّ الْكَمَالَ فِي الْقُدْرَةِ وَالسُّلْطَانِ وَالتَّصَرُّفِ فِي الْوُجُودِ: نَفَاذُ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ؛ إمَّا بِالْمُلْكِ وَالْوِلَايَةِ الظَّاهِرَةِ وَإِمَّا بِالْبَاطِنِ. وَتَكُونُ عِبَادَتُهُمْ وَمُجَاهَدَتُهُم - لِذَلِكَ وَكَثِيرٌ مِنْ هَؤُلَاءِ يَدْخُلُ فِي الشِّرْكِ وَالسِّحْرِ فَيَعْبُدُ الْكَوَاكِبَ وَالْأَصْنَامَ؛ لِتُعِينَهُ الشَّيَاطِينُ عَلَى مَقَاصِدِهِ وَهَؤُلَاءِ أَضَلُّ وَأَجْهَلُ مِنْ الَّذِينَ قَبْلَهُمْ وَغَايَةُ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ: يَطْلُبُ خَوَارِقَ الْعَادَاتِ يَكُونُ لَهُ نَصِيبٌ مِنْ هَذَا؛ وَلِهَذَا كَانَ مِنْهُمْ مَنْ يُرَى طَائِرًا وَمِنْهُمْ يُرَى مَاشِيًا وَمِنْهُمْ .

        وَفِيهِمْ جُهَّالٌ ضُلَّالٌ. وَطَائِفَةٌ تَجْعَلُ الْكَمَالَ فِي مَجْمُوعِ الْأَمْرَيْنِ فَيَدْخُلُونَ فِي أَقْوَالٍ وَأَعْمَالٍ مِنْ الشِّرْكِ وَالسِّحْرِ لِيَسْتَعِينُوا بِالشَّيَاطِينِ عَلَى مَا يَطْلُبُونَهُ مِنْ الْإِخْبَارِ بِالْأُمُورِ الْغَائِبَةِ وَعَلَى مَا يَنْفُذُ بِهِ تَصَرُّفُهُمْ فِي الْعَالَمِ. وَالْحَقُّ الْمُبِينُ: أَنَّ كَمَالَ الْإِنْسَانِ أَنْ يَعْبُدَ اللَّهَ عِلْمًا وَعَمَلًا كَمَا أَمَرَهُ رَبُّهُ وَهَؤُلَاءِ هُمْ عِبَادُ اللَّهِ وَهُمْ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُسْلِمُون وَهُمْ أَوْلِيَاءُ اللَّهِ الْمُتَّقُونَ وَحِزْبُ اللَّهِ الْمُفْلِحُونَ وَجُنْدُ اللَّهِ الْغَالِبُونَ وَهُمْ أَهْلُ الْعِلْمِ النَّافِعِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ وَهُمْ الَّذِينَ زَكُّوا نُفُوسَهُمْ وَكَمَّلُوهَا كَمَّلُوا الْقُوَّةَ النَّظَرِيَّةَ الْعِلْمِيَّةَ وَالْقُوَّةَ الْإِرَادِيَّةَ الْعَمَلِيَّةَ."(1)

14- لوازم بحث النفس:

  نذكر لوازمبحث النفس عند ابن تيمية في نقطتين بالاختصار:  

1- الحياة البرزخية:

   مذهب سائر المسلمين بل وسائر أهل الملل إثبات القيامة الكبرى، وقيام الناس من قبورهم، والثواب والعقاب هناك، وإثبات الثواب والعقاب في البرزخ -ما بين الموت إلى يوم القيامة- هذا قول السلف قاطبة وأهل السنة والجماعة، وإنّما أنكر ذلك في البرزخ قليل من أهل البدع. وأنّ كثيرا من أهل الكلام ينكر أن يكون للنفس وجود بعد الموت ولا ثواب ولا عقاب، ويزعمون أنّه لم يدل على ذلك القرآن والحديث، كما أنّ الذين أنكروا عذاب القبر والبرزخ مطلقا زعموا أنّه لم يدل على ذلك القرآن، وهو غلط، بل القرآن قد بيّن في غير موضع بقاء النفس بعد فراق البدن، وبيّن النعيم والعذاب في البرزخ. ثمّ الروح بعد الموت تكون أقوى تجرّدا، فترى بعد الموت وتحسّ بأمور لا تراها الآن ولا تحسّ بها. وفي الأنفس من يحصل له ما يوجب أن يرى بعينه ويسمع بأذنه ما لا يراه الحاضرون ولا يسمعونه، كما يرى الأنبياء والملائكة ويسمعون كلامهم، وكما يرى كثير من الناس الجنّ ويسمعون كلامهم.(2)

والصواب أنّه(الميت) يتأذى بالبكاء عليه، كما نطقت به الأحاديث الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنّه قال: "إنّ الميت يعذب ببكاء أهله عليه -وفي لفظ- من ينح عليه يعذب بما ينح عليه." وفي السنن عنه أنه قال:

(1)- نفس المصدر: ج2/ص94-96.

(2)- نفس المصدر: ج4/ص262-263، وانظر: ابن تيمية، درء تعارض العقل والنقل، ج6/ص108-109، بالتصرّف.

" أكثروا من الصلاة عليّ يوم الجمعة، وليلة الجمعة، فإنّ صلاتكم معروضة عليّ، فقالوا: يا رسول الله وكيف تعرض صلاتنا عليك؟ وقد أرمت –يعني صرت رميما- فقال: إنّ الله تعالى حرّم على الأرض أن تأكل لحوم الأنبياء." وفي السنن أنّه قال: "إنّ الله وكّل بقبري ملائكة يبلّغوني عن أمتي السلام."(1)

ثمّ يستنبط ابن تيمية من هذه النصوص: "أنّ الميت يسمع في الجملة كلام الحيّ ولا يجب أن يكون السمع دائما، بل قد يسمع في حال دون حال كما قد يعرض للحي فإنّه قد يسمع أحيانا خطاب من يخاطبه، وقد لا يسمع لعارض يعرض له، وهذا السمع سمع إدراك، ليس يترتّب عليه جزاء، ولا هو السمع المنفي بقوله: (إنّك لا تسمع الموتى) فإنّ المراد بذلك سمع القبول والامتثال."(2)

يذكر مخالفا لذلك في مكان آخر بقوله: وروى ابن عبد البر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنّه قال: "ما من رجل يمرّ بقبر رجل كان يعرفه في الدنيا فيسلم عليه إلا ردّ الله عليه روحه حتى يردّ عليه السلام. وفي الصحيحين من غير وجه أنّه كان صلى الله عليه وسلم يأمر بالسلام على أهل القبور.(3)

 أقول: هناك تناقض بين كلامه الأول وبين كلامه الثاني. في الكلام الأول يثبت أن الميت يسمع أحيانا، وأمّا من كلامه الثاني نفهم أنّ الميت يسمع دائما بل يجيب المخاطب.

2- التوسّل والشفاعة:

   يقول ابن تيمية في الشفاعة بقوله: "أجمع المسلمون على أنّ النبي صلى الله عليه وسلم يشفع للخلق يوم القيامة بعد أنّ يسأله الناس ذلك، وبعد أنّ يأذن الله له في الشفاعة. ثمّ إنّ أهل السنّة والجماعة متّفقون على ما اتّفق عليه الصحباة رضوان الله عليهم أجمعين واستفاضت به السنن من أنّه صلى الله عليه وسلم يشفع لأهل الكبائر من أمّته، ويشفع أيضا لعموم الخلق."(4)

ابن تيمية يخالف كلّ ما قال في بحث النفس بقوله في التوسّل: لم يكن أحد من سلف الأمّة في عصر الصحابة ولا التابعين ولا تابعي التابعين يتحرون الصلاة والدعاء عند قبور الأنبياء ويسألونهم، ولا يستغيثون بهم، لا في مغيّبهم، ولا عند قبورهم، وكذلك العكوف. ومن أعظم الشرك أن يستغيث الرجل بميت أو غائب يستغيث به عند المصائب يقول: ياسيدي فلان، كأنّه يطلب منه إزالة ضرّه أو جلب نفعه. (5)      

 

(1)- ابن تيمية، مجموع الفتاوى، ج24/ص370.

(2)- نفس المصدر: ج24/ص324.

(3)- نفس المصدر: ج24/ص363-364، بالتصرّف.

(4)- نفس المصدر: ج1/ص313.

(5)- نفس المصدر: ج27/ص81-82، بالتصرّف.

 

خلاصة البحث:

    ألخّص البحث في النقاط التالية:

1- النفس هي الروح عند ابن تيمية ولا يعرّفها مثل ما عرّفها الفارابي وابن سينا وغير ذلك من العلماء.يعرّف ابن تيمية النفس بأنّ" الروح المدبرة للبدن التي تفارقه بالموت هي الروح المنفوخة فيه وهي النفس التي تفارقه بالموت."

2- لا يمكن التعريف عند ابن تيمية بكيفية النفس وإن كانت لها كيفية في نفسها.

3- أنّها ليست مركبة من الجواهر المفردة ولا من المادة والصورة، وليست من جنس الأجسام المتحيزات المشهودة المعهودة. وأمّا الإشارة إليها فإنّه يشار إليها وتصعد وتنزل وتخرج من البدن وتسلّ منه كما جاءت بذلك النّصوص ودلّت عليه الشّواهد العقليّة.

4- أنواع النفس ثلاثة: النباتية، الحيوانية، الناطقية. ولكنّه لا يفرّق بين قواها.

5- أقسام النفس الناطقة: الأمّارة، المطمئنّة، اللوّامة.

6- قوى النفس الإنسانية: القوة العقلية، القوة الغضبية، القوة الشهوية.

7- الروح بعد الموت تكون أقوى تجرّدا، فترى بعد الموت وتحسّ بأمور لا تراها الآن ولا تحسّ بها.

8- روح الآدمي عند ابن تيمية مخلوقة، مبدعة باتفاق سلف الأمة وأئمتها وسائر أهل السنة، وقد حكى إجماع العلماء على أنّها مخلوقة غير واحد من أئمة المسلمين.

9- العقل قائم بنفس الإنسان التي تعقل، وأمّا من البدن فهو متعلق بقلبه.

10- أنّ الروح عين موجودة غير البدن، وأنّها ليست مماثلة له، وهي موصوفة بما نطقت به النصوص حقيقة لا مجازا.

11- فكمال النفس ليس في مجرّد العلم بل لا بدّ مع العلم بالله من محبته وعبادته والإنابة إليه فهذا عمل النفس وإرادتها ودالّ علمها ومعرفتها.

12- ابن تيمية يخالف كلّ ما قال في بحث النفس بقوله في التوسّل: أنّ التوسّل بميّت لا يجوز لعدم النصّ عليه.  

 

 

 

 

 

المصادر والمراجع:

1- القرآن الكريم.

2- ابن تيمية، درء تعارض العقل والنقل، تح: محمد رشاد سالم، جامعة محمد بن سعود الإسلامية، المملكة العربية السعودية، 1411هـ، الطبعة الثانية.

3- ابن تيمية، الردّ على المنطقيين، إدارة ترجمان السنّة، لاهور، باكستان، 1397هـ، الطبعة الثالثة.

4- ابن تيمية، رسالة جواب أهل العلم والإيمان أنّ قل هو الله أحد تعدل ثلث القرآن.

5- ابن تيمية، الفتوى الحموية الكبرى، تح: حمد بن عبد المحسن التويجري، دار الصميعي، الرياض، 1425هـ، الطبعة الثانية.

6 - ابن تيمية، مجموع الفتاوى، جمع و ترتيب: عبد الرحمن بن محمد بن قاسم وابنه محمد، مجمع الملك فهد، المملكة العربية السعودية، 1425هـ.

7- ابن حجر، الهيثمي ، الفتاوى الحديثة، طبع مصر.

8-  ابن عبد الهادي، العقود الدرية من مناقب ابن تيمية، تح: محمد حامد الفقي، مكتبة المؤيد.

9- ابن كثير الدمشقي، البداية والنهاية، تح: مجموعة من العلماء، دار الكتب العلمية، بيروت،1409هـ، الطبعة الخامسة.

10- ابن منظور، لسان العرب، التعليق: علي السيري، دار الإحياء التراث العربي، بيروت، 1408هـ، الطبعة الأولى.

11- أحمد الذهبي، سير أعلام النبلاء، تح: عدد من الباحثين، مؤسسة الرسالة، بيروت، 1412هـ، الطبعة الثامنة.

12- الراغب الأصفهاني، مفردات ألفاظ القرآن، تح: صفوان عدنان الداؤدي، دار القلم، دمشق، والدار الشامية، بيروت-لبنان، 1416هـ، الطبعة الأولى.

13- السبكي، علي بن عبد الكافي، الرسائل السبكية، دار عالم الكتب، بيروت، 1403هـ.

14- الكتبي، محمد شاكر، فوات الوفيات، دار صادر، بيروت.

15- محمد كاظم موسوي بجنورودى، دائرة المعارف بزرگ اسلامى، مركز دائرة المعارف بزرگ اسلامى، تهران،1374ش.

16- ابن تيمية/wiki/ar.wikipedia.org

 

فهرست الموضوعات:

1- المقدمة……………………………………………………………………………………………2

2- الفصل الأول: شخصية ابن تيمية………………………………………………………………….3

-       اسمه ونسبه ولقبه……………………………………………………………………………..3

-       عائلته………………………………………………………………………………………..3

-       مولده ونشأته………………………………………………………………………………..3

-       وفاته…………………………………………………………………………………………4

-       شيوخه وتلاميذه……………………………………………………………………………..4

-       أقوال العلماء فيه……………………………………………………………………………..5

-       آثاره…………………………………………………………………………………………6

3- الفصل الثاني: النفس عند ابن تيمية………………………………………………………………..8

-       تعريف النفس………………………………………………………………………………..8

-       إمكان معرفة النفس…………………………………………………………………………..8

-       إثبات وجود النفس…………………………………………………………………………..9

-       عدم جوهرية النفس.………………………………………………………………………….9

-       أنواع النفس………………………………………………………………………………….10

-       أنواع النفس الناطقة………………………………………………………………………....10

-       إنكار تجرّد النفس…………………………………………………………………………….10

-       حدوث النفس……………………………………………………………………………….11

-       قوى النفس…………………………………………………………………………………..12

-       منافع هذه القوى……………………………………………………………………………..13

-       علاقة النفس بقواها…………………………………………………………………………..13

-       علاقة النفس بالبدن…………………………………………………………………………..14

-       كمال النفس…………………………………………………………………………………15

-       لوازم بحث النفس عند ابن تيمية………………………………………………………………16

-       الحياة البرزخية……………………………………………………………………………….16

-       التوسّل والشفاعة………………………………………………………………………….17

4- خلاصة البحث………………………………………………………………………………..18

5- المصادر والمراجع………………………………………………………………………………19

6- فهرست الموضوعات………………………………………………………………………….20