مقدمة

        الحمد لله ربّ العالمين، الصّلاة والسّلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، و على آله الطيّبين الطّاهرين. أمّا بعد، فإنّ الحكمة المتعالية تشكّل نظاما فلسفيا متكاملا، - كالنظام المشائي لابن سينا، والنظام الإشراقي للسهروردي- و هي تشمل مباحث الإلهيات بالمعنى الأعم و الإلهيات بالمعنى الأخص و علم النفس، فيما تشكّل مسألة "أصالة الوجود و اعتبارية الماهية" الفعل الذي تمتاز به الحكمة المتعالية عن النظامين الفلسفيين المشائي والإشراقي. و هي التي تعتمد عليها في حل الكثير من المشاكل الفلسفية. و على أساس نظرية أصالة الوجود و اعتبارية الماهية تبطل نظريات التي تنسب إلى شيخ الإشراق والمشاء، و قد أثبت ملا صدرا على أساس هذه النظرية أنّ الماهية مجرد صورة ذهنية للواقعيات و يرجع التشكيك إلى الواقعيات في الخارج، و أما التّمايز بالأنواع الثلاثة فيخصّه بالماهيات في الذهن، و هذه الأنواع الثلاثة هي مجرد صور ذهنية للتمايز التشكيكي الخارجي، أي كما أنّ نفس الماهيات هي صور ذهنيّة للواقعيات، فالكثرة منهما بواحد من الأنحاء الثلاثة هي أيضا صورة ذهنية للكثرة التشكيكيّة في الواقعيات. و التشكيك يكون في الوجود بمعنى ما به الامتياز والاشتراك يرجع إلى ما به الاتحاد والافتراق. من هذا المنطلق اختار الباحث البحث و جعله موضع الدراسة و التحليل.

يشتمل هذا البحث على فصلين. الأول يتعلق بتبيين خصائص الحكمة المتعالية، و الثاني يبحث عن التشكيك في الوجود عندها. و في الأخير ذكرتُ النتائج التي توصّلت إليها من خلال البحث.      

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

الفصل الأول: خصائص الحكمة المتعالية

 

 

 

 

 

 

 

 

 

1- مكانة الفلسفة قبل ظهور الحكمة المتعالية

       قبل أنّ ندخل في البحث لابد أنّ نتعرض بعض الأشياء المهمة المتعلقة بهذا البحث مقدمة، و هو أن نلاحظ في مجال الفكر الإسلامي قبل صدر المتألهين وجود اتّجاهات ثلاثة حول أهم المسائل التي يقع البحث عنها في الفلسفة كوحدة الواقع أو كثرته، الأحكام العامة للوجود، أحكام الماهية. المسائل الراجعة إلى الإدراك، المواد الثلاث، العلية، الثبات و التغير، الجوهر و العرض، الله و صفاته و أفعاله، النفس و قواها، حدوث أو قدم روح الإنسان، زوالها و خلودها، المعاد و كيفيته و مسائل أخرى ترتبط بهذه المسائل بنحو ما. و هذه الاتجاهات هي: الاتّجاه الفلسفي، و الاتّجاه العرفاني، و الاتّجاه الكلامي. و بعبارة أخرى قبل صدر المتألهين كنّا نشهد وجود ثلاث رؤى كونية متغايرة: الرؤية الكونية الكلامية، و الرؤية الكونية الفلسفية، و الرؤية الكونية العرفانية.

أما الرؤية الكونية الفلسفية فهي نتاج عقلي، لأنّ أساسها و جذورها و طريقة البحث فيها و منهج توسعها عقلي. فهذه الرؤية الكونية هي نتاج المقولات البديهية حيث تجعل خمس استنتاجات منطقية أو المصطلح في قالب برهاني و أما الرؤية الكونية العرفانية فهي نتاج الكشف و الشهود، فالعارف يشهد الحقائق العرفانية، و يجعلها أساسا معتمدا على المنهج العقلي في تكاملها و الاستنتاج منها. و أما الرؤية الكونيّة الكلامية فهي على ما يزعم المتكلمون نتاج النقل. فوظيفة المتكلم الدفاع عن التعاليم العقائدية الدينية التي ورد النص عليها في القرآن والروايات[1] و هو يتمسك في سبيل أداء هذه الوظيفة بأية وسيلة مكلفة، سواء أكانت من العقل أم من النقل، و يتقدم أيّ منهج يفيدن في ذلك سواء أكانت منهجا برهانيا أم منهجا جدليا.

و تشتمل الرؤية الكونية الفلسفية على مشربين، هما المشرب المشائي والمشرب الإشراقي، و أعظم الفلاسفة المشائيين وأدقّهم هو ابن سينا، كما أنّ فيلسوف الإشراق و معيبي هذا المشرب بين المسلمين هو الشيخ شهاب الدين السهروردي و إن كان الاختلاف بين النظام المشائي لابن سينا و النظام الإشراقي للسهروردي، و لكن على الرغم من ذلك و نظرا إلى أن الاختلاف بين هذين النظامين كان له تأثيره على الحكمة المتعالية التي هي المشرب الثالث الذي أسّسه صدر المتألهين و جاء بآراء جديدة و ابتكارات متميّزة التي ما كانت موجودة قبله. و مِن ابتكارته مسئلة التشكيك الذي هو أساس في مدرسة حيث بناء و أثبت نظامه الفلسفي. قبل أن نرد في صلب البحث، لابد أنّ نتعرض بعض خصائص الحكمة المتعالية التي هي حلت المشاكل التي كانت موجودة قبلها.

2- مكانة الفلسفة بعد ظهور الحكمة المتعالية

الحكمة المتعالية تشكّل نظاما فلسفيا متكاملا، كالنظام المشائي لابن سينا، و النظام الإشراقي للسهروردي، و هي تشمل مباحث الإلهيات بالمعنى العام أو الأعم والإلهيات بالمعنى الأخص وعلم النفس، فيما تشكّل مسألة "أصالة الوجود و اعتبارية الماهية" الفعل الذي تمتاز به الحكمة المتعالية عن النظامين الفلسفيين المشائي و الإشراقي. و هي التي تعتمد عليها في حل الكثير من المشاكل الفلسفية. فكما أنّ تمام خصائص الإنسان ترجع في نشأتها إلى النفس الناطقة، و هي الفعل المميز له عن سائر الحيوانات، فإنّ كافة خصائص الحكمة المتعالية ترجع في نشأتها إلى مسألة أصالة الوجود و اعتبارية الماهية التي كانت لها نتائجها في مختلف أبواب الفلسفة. فهذه المسألة هي مفتاح في هذا النظام الحكمي، و قد لا أتمكن الباحث أن يطرح هذا البحث هنا لأن موضوعه التشكيك و صدر المتألين قد تمكن من خلال هذا المفتاح (أصالة الوجود) من فتح الأقفال الفلسفية المغلقة، و بعد أصالة الوجود تأتي قضايا ثلاث. هي مسألة التشكيك في الوجود، الوجود الرابط للمعلول، و الحركة الجوهرية. و هذه المسائل الثلاث تبتني على أصالة الوجود، و لها دورها الرئيسي في الحكمة المتعالية، و هي بمثابة المباني الفرعيّة فيها، و ذلك لأنّ البحث عن سائر المسائل في المجالات الأحد عشر[2] يرجع في الحكمة المتعالية إلى هذه المجموعة الثلاثية من القضايا.

 إذن لدينا قضايا أربع رئيسية، و ترتيبها من حيث الأهمية إنّما يكون بالنّحو التالي:

1- أصالة الوجود و اعتبارية الماهية

2- التشكيك في الوجود

3- الوجود الرابط للمعلول

4- الحركة الجوهرية الأعم من الاشتدادية و غير الاشتدادية.

و الحقيقة هي أنّ هذه القضايا الأربع تشكّل المباني الرّئيسيّة و الفرعيّة للحكمة المتعالية من حيث هي حكمة متعالية. و هذه المسائل أساسية و ليس عند الباحث المجال أن يبحث عن كل واحد من الأربعة، بل يكتفي على مسألة التشكيك الذي هو الركن الثاني في مدرسة الحكمة المتعالية بعد أصالة الوجود، بل إنّ هاتين المسألتين تعدّان الأساس الذي انطلق ملا صدرا لبناء طرح مدرسته الفلسفية.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

الفصل الثاني: التشكيك عند الحكمة المتعالية

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

     عند المدرسة لملا صدرا التشكيك في الوجود، و يتوقّف السؤال الذي يجب أن نقدم لإجابة عنه في هذا على نكتة مفادها أنّه حيثما وجدت كثرة فلابد و أن يكون بين الأشياء المتكثرّة نوع من الاختلاف و من غير الممكن أن تكون الأشياء المتكثرة متشابهة أو متحدة من جميع الجهات، إذ الكثرة فرع الاختلاف و ما به الامتياز. و لقد اتفق الفلاسفة السابقون على مقدمتين:

المقدمة الأولى:

الاختلاف بين أمر  مثل "ألف" و أمر  آخر تم تكثرهما، يمكن أن يكون بأحد أبعاد ثلاثة: بالأمور العرفية بنفس الذات أو بفصولهما، لأن ما به الامتياز "ألف" عن غيرها إما:

1- بالخارج عن ذات "ألف" و ماهيتها أي بما هو عرضي بالنسبة إليها كما في كثرة أفراد النوع الواحد، فإنّ ما به الاشتراك هو ذات الأفراد و ماهيتها وما به الامتياز و ما يكون موجبا لتعدد الأفراد هو الأمور العرضية و الخارجية عن ذاتها.

2- بما هو ذاتي لألف، داخل في ماهيتها يتجزأ منها و بالإصلاح فصل هذه الماهية، كما في كثرة أنواع الجنس الواحد، فما به الاشتراك بين أفراد هذا النوع هو ماهية الجنس، و ما به الامتياز هو ماهيات الفعل.

3- عين ذات ألف و ماهيتها، و في الاصطلاح أن يكون ما به الامتياز هو تمام الذات و الماهية، على نحو لا يتحقق بينهما أي اتحاد ذاتي ماهوي، كالكثرة في الأجناس العالية، و الكثرة في الأنواع المندرجة تحتها و كثرة أفراد ذلك النوع، و في مثل هذه الحالة إنّما يكون الاشتراك بالأمور العرضية الخارجية عن الذات الماهية كلون هذه الورقة و حجمها. فما به الاشتراك هو العرضية والشيئية، و ما به الامتياز هو دون الماهيات، و هذه الأنحاء الثلاثة من الاختلاف و الكثرة هي محل تسالم و اتفاق.[3]

 

المقدمة الثانية:

بعض الماهيات قد يكون تكثرها و تمايزها عن طريق التشكيك. و ذلك:

1- لأننا لا يمكننا الشك في أنّ بعض الماهيات تختلف عن بعضها في الكمال و النقص أو الشدة و الضعف أو القلة و الزيادة أو الكبر و الصغر أو التقدم و التأخر.[4]  و بكلمة واحدة: تتعامل. و بهذا يكون بينها نوع من التمايز، و تبعا لذلك تظهر الكثرة بينها، كما في البياض الشديد في الثلج والبياض الضعيف في هذه الورقة، و بعبارة أخرى: قد نعبد أن بعض الماهيات تصدق على أفرادها المتكثرين على نحو متفاوت لا بنحو معتاد، بحيث تكون نسبة الأفراد بعضها إلى البعض الآخر هي التفاضل.

2- فصل من خلال تعليل التفاضل إلى أن اختلاف الأمور المتفاضلة من حيث كونها متفاضلة ينشأ من الاختلاف في مقدار ما تمتلكه من الحقيقة الواحدة. فالفرق بين الشديد و الضعيف من جهة كون أحدهما شديدا و الآخر ضعيفا، إنما يكون فقط من جهة أن الشديد يشتمل على نسبة أعلى من تلك الحقيقة التي يشمل عليها الضعيف. كما قال ملا صدرا في كتابه "الأسفار":  "إن أحدهما أوفر حظا مما يطلق عليها السواد و الآخر أقل حظا منه."[5] لا أنه يشتمل على الحقيقة بالمقدار الموجود في الضعيف مضافا إلى حقيقة أخرى لا يشتمل عليها الضعيف. فالحقيقة المذكورة هي ما به الاشتراك بين الشديد و الضعيف، لأنها موجودة فيهما معا.[6] كما أن التمايز بينهما إنما يكون في تلك الحقيقة أيضا، لأن اختلافهما في مقدار ما تشتملان عليه من تلك الحقيقة موجب للتمايز بين الفردين، أي أن ما به الاشتراك و ما به الامتياز  بين الشديد و الضعيف من حيث كون أحدهما شديدا و الآخر ضعيفا هو نفس الحقيقة الواحدة.

3- إن مفردة "التشكيك" في الفلسفة ترد بمعنى أن ما به الاشتراك و ما به الامتياز في الأمور المتكثرة حقيقة واحدة سواء كان منشأ هذه الخصوصية التفاضل، و الذي يطلق عليه التشكيك الطولي أو التفاضلي. أم كان منشأ ذلك غير التفاضل و هو يطلق عليه التشكيك العرفي. المعيار الأساسي للتشكيك الذي يكون عاما بنحو يشمل التشكيك التفاضلي، و يشمل التشكيك العرفي أيضا، وحدة ما به الاشتراك و ما به الامتياز. و قد أشار صدر المتألهين مرّات عديدة إلى هذا المعيار. من ذلك قوله: "إن التفاوت بين شيئين قد يكون بنفس ما وقع فيه التوافق بينهما لا بما يزيد عليه و لا بما يدخل فيه."[7]

و بملاحظة المقدمتين المذكورتين أعلاه يطرح السؤال التالي:

هل الكثرة التشكيكية نوع رابع من أنواع الكثرة في مقابل الأنواع الثلاثة المشهورة؟ أو أن هذا النوع من الكثرة يرجع إلى أحد هذه الأنواع المشهورة؟ و بعبارة أخرى: هل التمايز في الماهية بسبب الشدة و الضعف و الكمال و النقص، أو بشكل عام بسبب التشكيك هو نوع من أنواع التمايز أم لا؟

يختار ابن سينا و اتباعه في الجواب عن هذا السؤال الشقّ الثاني، فيما يختار شيخ الإشراق و أمثاله الشقّ الأول لو نقول بالاختصار إن مبحث التشكيك قبل صدر المتألهين لم يكن مطروحا في كافة الواقعيات، بل فقط في باب الكيفيات و الكميات التي لها أنواع متفاضلة، و كحد أقصى في الجواهر التي تكون العلاقة بينهما علاقة العلية – المعلولية الفاعلية أولا و ثانيا فيما يرتبط بذلك يوجد اتجاهان: الاتجاه الإشراقي المبني على التشكيك في الذاتي أو الماهية، و الاتجاه الثاني المشائي المبني على التشكيك في العرض أو المفهوم. و يتبنى صدر المتألهين اتجاها ثالثا مبنيا على أساس القول بأصالة الوجود و اعتبارية الماهية و يطلق عليه التشكيك في الوجود و المراتب الوجودية.[8]

قبل أن ندخل في مبحث التشكيك لابد نجيب عن هذه التساؤلات التالية:

هل أنّ عالم الخارج محكوم بالوحدة المحضة و أن الكثرة فيه بمثابة أمر تصوري و فاقد للواقعية أم أن الكثرة الحقيقية هي الحاكمة و الغالبة في هذا العالم و ما الوحدة سوى أمر مجازي و موهوم...؟ أم أنّ الواقع الخارجي يتشكّل من كثرة مترادفة مع الوحدة و الوحدة ممزوجة بالكثرة؟

في هذا المقام يمكن الإشارة إلى أربعة آراء:

1- نظرية "وحدة الوجود والموجود" أي الوحدة العرفية هي الحاكمة في عالم الوجود. أي أن التحقق حاصل لوجود واحد حسب. يتمثل بذات الباري عزوجل. و ليس ثمة موجود حقيقي سواه و كان ما هو دونه فهو سراب و وهمٌ و يدلّ على كذب موجوديته و تحققه... و يعرف هذا الرأي ب"وحدة الوجود والموجود" و ينسب إلى بعض المتصوّفة.

2- نظرية "وحدة الوجود و كثرة الموجود" تنسب هذه النظرية إلى المحقق الدّواني. و المقصود بها أن الوجود واحد إلا أن الموجودات كثيرة، و طبقا لهذه النظرية فإن "الوجود الحقيقي" عبارة عن أمر واحد، متحقق على مستوى وجود الواجب تعالى، و المقابل هناك الكثير من الموجودات المتحققة و المتكثرة، غير أن تحققها حاصل من خلال كونها منسوبة إلى الوجود الحقيقي و ليس بمعنى أنها وجود حقيقي.

3- نظرية "كثرة الوجود والموجود": و مفاد هذا الرأي أن الكثرة المحضة هي الحاكمة في هذا العالم و أنّ الوحدة ليست إلا أمرا اعتباريا و مجازيا، فاقدا للواقعية. و تنسب هذه النظرية لحكماء المشاء و تعرف تحت عنوان" كثرة الوجود والموجود".

4- نظرية الوحدة في عين الكثرة: أما مغزى هذه النظرية فهو أنّ هناك واقعية لكثرة كما أن هناك واقعية للوحدة (وحدة شخصية) بمعنى أن ثمة وجودات مختلفة متحققة في عالم الخارج (وهذا الأمر بديهي ولا يحتاج إلى إثبات) تدل على أن الكثرة في العالم الخارجي أمر حقيقي و غير قابل للإنكار و التشكيك، إلا أن هذه الكثرة، و بخلاف ما يقوله حكماء المشاء لا تنافي البتة مع الوحدة القائمة على مستوى العالم، و ليس صحيحا أنّه لم يوجد تحقق لأية جهة مختصّة و مشتركة فيما بين تلك الوجودات. و تعرّف هذه النظرية تحت عنوان "الوحدة في عين الكثرة". و قد تبناها صدر المتألهين و نسبها إلى الفهلويين من حكماء فارس. و من بعده تمّ تبيينها من قبل أتباع الحكمة المتعالية.[9]

 

 

1- أنواع الامتياز

الامتياز بين شيئين على أربعة أشكال:

1- الامتياز بتمام الذات: و هو يحصل في حالة الانفصال التام بين شيئين من دون وجود أي اشتراك فيما بينهما. مثال ذلك: امتياز الجوهر عن العرض و امتياز كل واحدة من المقولات العرفية عن الأخرى. كامتياز الكمية عن الكيفية إذ لا يوجد بينهما أي وجه مشترك.

2- امتياز بجزء من الذات: و يتحقق فيما لو كان الاشتراك بين شيئين على مستوى جزء من الذات و الاختلاف على مستوى جزء آخر. مثل امتياز الإنسان عن البقر، إذ يشتركان في الحيوانية التي تشكل الجنس لكليهما، و بالمقابل يختلفان لناحية الفصل الذي يميز هما عن بعضها البعض. و جدير بالذكر هنا أن هذا النوع من الامتياز يختص بالذوات المرئية المختصة بالجنس المشترك.

3- الامتياز بالأعراض خارج الذات، و هذا النوع من الامتياز يقع على مستوى نوع واحد لتلك أفراد مختلفة، مثال ذلك الإنسان، إذ لدى كافة أفراد البشر حقيقة و ذات واحدة، و من هذه الجهة لا يوجد أي تميّز فيما بين تلك الأفراد. و الامتياز. و الحاصل إنّما محقق في الأعراض خارج الذوات كأن يكون لكل واحد طول خاص و وزن خاص، و لون خاص، و زمان و مكان و....إلخ

4- كما يلاحظ من خلال الأقسام الثلاثة الآنفة الذكر، فإن ما به الامتياز – على مستوى كل واحدة منها – غير ما به الاشتراك، حيث يختص القسم الأول بالبنيوية الكاملة من دون وجود أي وجه للاشتراك، ليختار إلى الرجوع إليه، و في القسم الثاني، فإن ما به الاشتراك ينحصر بالجنس في حين أنّ ما به الامتياز ينحصر بالفصل، و ثمة تمايز قائم ما بين الفصل و الجنس و أمّا في القسم الثالث من الامتيازات فإنّ ما به الاشتراك يشتمل على الذات بيد أن ما به الامتياز. فيتمثل بالعرض الخارج عن مقام الذات أي أن الأعراض الخارجة عن الذات مغايرة للذات و بذلك يتحقّق

 

التّمايز. أمّا القسم الرابع من الامتياز فهو عبارة عن أن: "ما به الامتياز يرجع ما به الاشتراك."[10]

2- التشكيك في الوجود:

التشكيك في الوجود كما أشار إليه سابقا حيث يكون ما به الاشتراك هو الوجود أيضا و مما تقدم توضيحه آنفا إلى أن صدر المتألهين يقرّر ثلاث مقدمات:

1- لا تشك في وجود واقعيات متفاضلة، كأفراد أنواع الكيفيات و الكميات.

2- إنّ ما به الاشتراك و ما به الامتياز بين الأفراد المتفاضلة من حيث كونها متفاضلة هي بالضرورة حقيقة واحدة، أي أن نفس الحقيقة التي هي مناط الاختلاف و التفاضل والكمال و النقص في الأشياء المتفاضلة هي الموضوعة بالضرورة – بنحو الحقيقة – في الشيئين الكامل و الناقص بوصفي الكمال والنقصان. و يستنتج من ذلك أنها موجودة في كلا الفردين و أنّها هي ما به الاشتراك بينهما.

3- إن ما به الامتياز بين الأمور المتفاضلة من حيث كونها متفاضلة هو نفس الواقعية الخارجية للفرد بما هي هي، و بصرف النظر عن كونها مصداقا لمفهوم ذاتي أو عرضي و بتعبير صدر المتألهين ما به الامتياز المذكور هو حقيقة وجود الفرد، و بحسب تعبير الفلاسفة المشائين هو الهويات الشخصية للأفراد المتفاضلة.

و من الواضح أنه بعد اجتماع هذه المقدمات الثلاث لا يبقى لنا طريق سوى أن نلتزم بأن ما به الاشتراك في الأمور المتفاضلة هو نفس الحقيقة الخارجية للوجود، كما أن ما به الامتياز هو نفس هذه الحقيقة. بعبارة أخرى: إنّ الهويات الشخصيّة للأفراد المتفاضلة كما تكون متكثرة ذاتا، أي كما تتصف بذاتها بالكمال و النقصان و الاشتراك: "فالحق أن ما فيه التقدم في غير الوجود إنما يكون بواسطة الوجود، و أمّا في الوجود فهو من جهة نفسه شيء آخر غيره."[11]

نقول بالاختصار: في المرحلة الأولى كانت الماهية ملاكا للاشتراك و الوحدة وملاكا للتمايز أيضا بمقتضى التشكيك و بينما في المرحلة الثانية كانت الماهية هي ملاك الاشتراك و الوحدة و حقيقة الوجود هي ملاك التمايز، لأنّه غير الممكن أن تكون الماهية هي ملاك التمايز و الكثرة، و في المرحلة الثانية أو الخطوة الثالثة تكون حقيقة الوجود هي ملاك التمايز بمقتضى التشكيك، و هي ملاك الاشتراك و الوحدة أيضا،  و إلا فلا يقع تشكيك حقيقي و لا يوجد.[12]

3- نوع الوحدة التشكيكية:

من الواضح أنّ الاشتراك في الواقعيات الخارجية بما هي هي و بصرف النظر عنه إلى نوع من المفاهيم الذاتية أو العرضية التي تقبل الصدق عليها، هو بالضرورة من الاشترك العيني الخارجي، لا الاشتراك الذهني المفهومي، بمعنى صدق المفهوم الذاتي أو العرضي الواحد على واقعيات متكثرة. إذن في نظرية التشكيك في الوجود، فإنّ الواقعية الخارجية لفرد من الماهية في عين كونها و بنفسها مغايرة للواقعية الخارجية لفرد آخر منها تشترك معها بنحو اشتراك في الخارج[13]  بمعنى أن تمام واقعية كل فرد هي ما به الاشتراك مع فرد آخر، و هي أيضا بتمامها و بعينها ما به الامتياز عن الفرد الآخر. فتمام واقعية الفرد الكامل كاملة، أي أمر موصوف بالكمال، و هي ما به الاشتراك بين الكامل و الناقص و هو بنفسه كذلك كمال الكامل، على نحو يكون ما به الامتياز بين الكامل والناقص. و كذلك الحال في الفرد الناقص، فإنّ تمام واقعية نفسه ناقصة - أي هي أمر موصوف بالنقص و هي ما به الاشتراك بينه و بين الكامل-  و هو نفسه بعينه نقص الناقص و ما به الامتياز بين الناقص والكامل – كما قال: "فإنه أي إنّ الوجود بذاته مما يتفاوت كمالا نقصا تقدما و تأخرا افتقارا و لأنه بذاته متعيّن فهو بذاته متقدم و تقدم و متأخرا و تأخر، كما أنه بذاته كامل و فاضل و فضيلة."[14] و من هنا لا معنى لأن نفرض أنه ليس بين الواقعية الكاملة والواقعية الناقصة أي نوع من الوحدة الخارجية و أن بينهما في الوقت نفسه أمرا عينيا هو ما به الاشتراك خارجا عليه، فمن الضروري عقلا أن نسلّم بحقيقة عينية واحدة تتكثر بسبب التفاضل بالكمال و النقص. إذن مقتضى التشكيك في الوجود أنه لابد من الحقول بوجود نوع من الوحدة الخارجية العينية في كافة الواقعيات المتفاضلة، أي لابد من القول بأن الواقعية الخارجية و حقيقة الوجود هما حقيقة خارجية واحدة.[15] تحقق فيها التكثر عن طريق درجات التكثر من الكمال و النقص، فجاءت على صورة حقائق وجودية متكثرة: "إن أفراد مفهوم الوجود ليست حقائق متخالفة، بل الوجود حقيقة واحدة، و ليس اشتركها بين الوجودات كاشتراك الطبيعة الكلية، ذاتية كانت عرضية بين أفرادها."[16]

لا شك في أننا جميعا نملك تصورا واضحا عن الواقعيات الخارجية هي بنفسها متغايرة بعضها مع البعض الخر، بنحو يكون تمام كل واحدة منها هو ما به الامتياز عن غيرها. و لكن ما هي الصورة لدينا عنه أن بين الواقعيات اشتراك و وحدة عينية؟ يرى صدر المتألهين أن الجواب عن هذا السؤال يختص بالعرفاء والراسخين في العلم.[17] و ذلك كناية عن أنه مع عدم تحقق الإدراك الشهودي و الحضوري لا يمكننا أن نملك تصورا واضحا عنه. نعم، بمقتضى البرهان يمكننا فقط التصديق به. إذن لا ينبغي أن يظن أن المراد من هذه الوحدة الوحدة الشخصية التي تتنافى مع الكثرة، و التي تستلزم أن لا يكون لدينا واقعيات متكثرة في الخارج. و أن يكون لدينا شخص واحد و موجود واحد. و كذلك ليس المراد من ذلك الوحدة الذهنية المفهومية أيضا التي تعني مجرد صدق مفهوم واحد على واقعيات متكثرة.

4-  دلائل تشكيك الوجود:

المقدمات:

بيان التشكيك الخاص في الوجود يتبنى على مقدمات:

الأولى: بساطة حقيقة الوجود و عدم تركيبها من جنس و فصل.

الثانية: وجود الكثرة، أي وجود الشدّة و الضعف و الفقر و الغنى و التقدم و التاخر و النقص و الكمال في الموجودات.

الثالثة: أصالة الوجود واعتبارية الماهية.

الرابعة: اشتراك الموجودات في الوجود و عدم تباينها بتمام الذات.

توضيح المقدمات:

الأولى: حقيقة الوجود بسيط لا تركيب فيها، لأن كون الوجود لشيء و كون شيء جزء للوجود بإطلاق لأصالة ، لأن غير الوجود ليس إلا العدم و لا تركيب من الوجود و العدم، فالوجود حقيقة واحدة بسيطة صرفة، و صرف الشيء لا يتثنى و لا يتكرر، و ليس بمركب من نفسه وغيره.

الثانية: وجود الكثرة في الوجود مما لا يقبل الإنكار و الكثرة في الموجودات إما طولى و هو في سلسلة العلل و المعلولات و إما عرضي و هو في الموجودات التي تكون واقعة في مرتبة واحدة في المراتب الطولية.

الثالثة: قد ثبت في محلّه أن الجعل لا يتحقق إلا في الموجودات دون الماهيات الكلية، و إنّ منشأ الآثار الخارجية في الموجودات هو الوجود فهو الأصيل و الماهية اعتبارية انتزاعيّة من حدود الوجودات.

الرابعة: قد ثبت في محلّه أنّ مفهوم الوجود مشترك معنوي يحمل على الموجودات بالاشتراك.

فحمل مفهوم واحد مثل الوجود على الموجودات الكثيرة كاشف عن كونها مشتركة في أصل الوجود العيني و عدم تباينها بتمام الذات كما نسب إلى المشائين. فإن المشائين لما نظروا إلى كثرة الوجودات من جهة و بساطة حقيقة الوجود من جهة أخرى قالوا بأن الوجودات ليس بينها جهة اشتراك حقيقي، لأنه مع قبول الاشتراك و الكثرة لابد من فرض جهة اختلاف عيني غير الوجود المشترك، و هذا ممنوع لأصالة الوجود.[18]

قد ذكر في محلّه أنّ التشكيك في الموجودات من جملة دلائل أصالة الوجود، و هنا يذكر أن من مقدمات إثبات التشكيك أصالة الوجود، فهناك أثبتت أصالة الوجود على التشكيك، و ها هنا يقيني التشكيك على أصالة الوجود فهل هذا إلا الدور المصرّح؟

يمكن الإجابة بأنّ التشكيك الذي كان هناك من جملة دلائل أصالة الوجود ليس التشكيك في الوجود، بل أصل التشكيك في الواقع والخارج مع قطع النظر عن وقوعه في الوجود أو الماهية. قال القائلون بأصالة الوجود بأنّ الاشتداد و التضعيف في الواقع غير قابل للإنكار و أنّ الماهية لا تقبل التشكيك فيثبت أصالة الوجود و اعتبارية الماهية. و أمّا التشكيك الذي ها هنا و الذي يتبنى إثباته على أصالة الوجود هو خصوص التشكيك الخاص في الوجود. و الحاصل أنّ التشكيك هناك مطلق و ها هنا مقيّد.

نكتة:

قد ناقش الأستاذ الشيخ مصباح اليزدي(دام عزه) في كتابه "آموزش فلسفه" فيما ذكر أن الوحدة و الكثرة في المقولات الثانية الفلسفية كالوجود، لا يكشفان عن جهة وحدة أو كثرة عينية في الوجودات الخارجية. فكون مفهوم الوجود مشتركا معنويا واحدا منتزعا عن الوجودات الخارجية لا يكشف عن جهة واحدة عينية فيها. فمع عدم إقامة برهان آخر على اشتراك الوجودات لابد من القول بتباين الموجودات بتمام الذات كما نسب إلى المشائين، و قد مثل الشيخ مصباح اليزدي(دام عزه) بانتزاع مفهوم العرض عن المقولات التسع العرضية مع أنّ الوحدة أي وحدة مفهوم العرض لا تكشف عن جهة اشتراك عينية بين المقولات العرضية و إلا لزم جنسية العرض للمقولات العرضية.

يمكن أن يقال إنّ انتزاع المفهوم الواحد من الكثير بما هو كثير محال، و هذا مما لا يقبل الإنكار، و الوحدة و الكثرة في المقولات الثانية و إن كانتا راجعتين إلى اللحاظ الذهني و لكن انتزاع مفهوم الوجود الواحد عن الموجودات بما أنّه  عن الخارج يكشف عن جهة عينية واحدة، لأن العينية و الوجود أمر واحد، و كل منهما عين الآخر. فإذا انتزعنا من الموجودات الخارجية العينية مفهوم "العيني الخاجي" هل لنا أن نقول بأن هذا المفهوم الواحد لا يكشف عن جهة عينية واحدة في المنتزع عنه؟ فكذا في الوجود. و أمّا انتزاع مفاهيم "العرض، المقولة، الجنس، الماهية" عن الأجناس العالية أو بعضها و إن كان لا يكشف عن جهة ذاتية بين المقولات. و ذلك أمر واضح لعدم كون هذه المفاهيم من المفاهيم الماهوية إلا أن مفهوم العرض و الماهية بالمعنى الفلسفي يكشفان عن جهة عينية غير ماهوية في الموجودات، و هي مثلا قيام الأعراض كلها في الخارج بالجوهر أي الموجودية للموضوع كالعلية و المعلولية و الوجوب و الإمكان و سائر المقولات الثانية الفلسفية الحاكية من أنحاء الموجودات، فانتزاع مفهوم العرض بالمعنى الفلسفي الواحد من المعقولات العرضية يكشف واقعا عن جهة عينية فيها إلا أنها ليست جهة ماهوية. اللهم إلا أن يقال إنّ المعقولات الثانية الفلسفية الحاكية عن أنحاء الوجود أيضا لا تكشف عن جهات عينية واقعية في الموجودات.

فالحاصل: أنّ انتزاع مفهوم واحد من الكثير لكثيف قطعا عن جهة وحدة في الكثير وأما كون هذه الجهة عينية أو ذهنية، فهذا يرجع إلى مفاد المفهوم المنتزع و الكثير المنتزع منه. فإذا انتزعنا مفهوم الوجود الواحد عن الموجودات الخارجية، فهذا يكشف عن أمر مشترك عيني واحد بين الموجودات و هو نفس الموجودية و التحقق.

بعد ملاحظات المقدمات المذكورة فنقول: الكثرة موجودة بديهية والموجودات ليست بمتبينات بتمام الذات فجهة الاشتراك أيضا موجودة و إنما الأصيل هو الوجود و غير الوجود هو العدم. و الوجود حقيقة بسيطة، فجهة الامتياز و التكثّر بين الموجودات ترجع إلى جهة اشتراكها و ليست هي إلا الوجود، فالوجود حقيقة ذات مصاديق كثيرة جهة الاختلاف فيها عين جهة الاشتراك بينها. فحقيقة الوجود وحدة في عين الكثرة و كثرة في عين الوحدة و هذا هو التشكيك.

نكتة أولى:

لو تسمنا التشكيك مع قطع النظر عن الأقسام التي ذكرها العرفاء و الصوفية إلى ثلاثة أقسام و هي العامي و الخاصي و الأخص مع قبول الفرق الذي قيل به بين الخاص و الأخص، فالتشكيك في الوجود أخص و إلا خاص.

نكتة ثانية:

سبق أن قلنا أنه قيل من خواص التشكيك في الوجود عدم استقلال الوجودات بحيث يكون كل من الموجودات إما علة فقط كالواجب تعالى، و إما معلولا فقط كالموجود الآخير في سلسلة المعاليل. و أما علة لما دونه و معلولا لما فوقه. فعلى هذا القول إنّما يكون التشكيك الخاص في الموجودات الطولية في سلسلة العلل و المعاليل، و أما الموجودات العرفية كالمعلولين لعلة واحدة مثلا فلا يكون التشكيك بينهما خاصيا بهذا المعنى أي كون أحدهما من شؤون وجود الآخر. إلا أن يقال أنّ الخاص لا يشترط فيه إلا كون ما به الاشتراك عين ما به الاختلاف فيعمم الوجودات الطولية و العرضية معا.

كلام صاحب الأسفار في تشكيك الوجود: قال(ره): "إنك لما تيقّنت أن الوجود حقيقة واحدة لا جنس لها و لا فصل و هي في جميع الأشياء بمعنى واحد، و أفرادها الذاتية ليست متخالفة بالذات و لا بالهويات التي هي مغايرة للذات، بل بالهويات التي هي عين الذات. و قد مرّ أيضا أن الجاعلية والمجعولية لا تتحقّق إلا في الوجودات دون الماهيات الكلية، فالحكم بأن أفرادها المتعينة بنفس هوياتها المتفقة الحقيقية المتقدمة بعضها على بعض بالذات و الماهية مختلفة بأنحاء الاختلافات التشكيكية من الأولوية و عدمها و التقدم و التأخر و القوة و الضعف."[19]  

و قال أيضا في مقام الاستدلال ما هذا لفظه: "وأمّا كونه(الوجود)" محمولا على ما تحته بالتشكيك أعني بالأولوية الأولية و الأقدمية و الأشدية، فلأن الوجود في بعض الموجودات مقتضى ذاته كما سيجيء دون بعض و في بعضها أقدم بحسب الطبع من بعض و في بعض أقوى. فالوجود الذي لا سبب له أولى بالموجودية من غيره و هو متقدم على جميع الموجودات بالطبع و كذا وجود كل واحد من العقول النقالة على وجود تالية و وجود الجوهر متقدم على وجود العرض.[20]  وأيضا فإنّ الوجود المفارقي أقوى من الوجود المادي، و خصوصا وجود نفس المادة القابلة. فإنها في غاية الضعف حتى كأنها تشبه العدم و المتقدم و المتأخر و كذا الأقوى و الأضعف كالمقومين للوجودات و إن لم يكن كذلك للماهيات فالموجود الواقع في كل مرتبة من المراتب، لا يتصور وقوعه في مرتبة أخرى لا سابقة و لا  لاحقة  و لا وقوع وجود آخر في مرتبة لا سابق  و لا لاحق. و المشائون إذا قالوا: إنّ العقل مثلا متقدم بالطبع على الهيولى و كل من الهيولى و الصورة متقدم بالطبع أو بالعلية على الجسم، فليس مرادهم من هذا بأنّ ماهية شيء من تلك الأمور متقدمة على ماهية الآخر و حمل الجوهر على الجسم و جزئيه تقدم و تأخر، بل المقصود إن وجود ذلك متقدم على وجود هذا."[21]

 

 

إشارة إلى الاستدلال:

يرى صدر المتألهين أن الوحدة المفهومية تنشأ في الأساس من الوحدة العينية. فإذا لم يكن بين الواقعيات العينية نوع من الاشتراك و الوحدة الخارجية، فإّن من غير الممكن أن تكون مصداقا لمفهوم واحد. و لهذا السبب يكون صدق المفهوم الواحد على الواقعيات المتعددة و المتكثرة دالا على وجود نوع من الاشتراك و الوحدة الخارجية بينها.[22] و أما بناء على أصالة الوجود فإنّ المفهوم الواحد للوجود يمكن حمله على كافة الواقعيات الخارجية بالحمل الذاتي و حمل هو هو. إذن كافة الواقعيات الخارجية بينها نوع من الاشتراك و الوحدة الخارجية.[23] أي أن حقيقة واحدة هي التي تملأ عالم الخارج. و بعبارة أخرى: حقيقة الوجود ذاتا هي حقيقة واحدة. و من جهة أخرى لا يمكننا إنكار كثرة الموجود في الخارج، أي لدينا في الخارج حقائق وجودية متكثرة متغايرة و متمايزة ذاتا، لا أنها حقيقة شخصية دون أي نوع من التكثر. إذن حقيقة الوجود هي في ذاتها واحدة و هي متكثرة أيضا، و الوحدة و الكثرة. إذن كافة الواقعيات الخارجية و الحقائق الوجودية متمايزة و متكثرة بنحو تشكيكي، كما قال صدر المتألهين: لما كانت الوجودات الخاصة أي الواقعيات الخارجية و الحقائق الوجودية مشتركة في هذا المفهوم. أي في مفهوم الوجود..... الذي يكون حكاية عنها، فلابد أن يكون للجميع اتفاق في سنخ حقيقة الوجود، لابد مع ذلك من امتياز بينهما. إما بالكمال و النقص(وهو التشكيك التفاضلي) .... أو بأوصاف زائدة(و هو التشكيك العرضي)"[24]

5-  النظام التشكيكي للوجود

بناء على ما تقدم فالبحث عن التشكيك في الوجود بدأ بالنزاع في الأنواع المتفاضلة من الكيفيات و الكميات، و ما قاله صدر المتألهين في إطار هذا النزاع يرجع إلى نفي التشكيك في الذاتي و نفي التشكيك في العرضي و إثبات التشكيك في الوجود بمعنى أن التفاضل في أفراد الماهية الواحدة مستلزم للتشكيك في حقيقة وجود هذه الأفراد، و مع ذلك لا ينبغي أن نصل إلى استنتاج أن التشكيك في الوجود منحصر بهذه الأفراد و بهذه الماهيات، و أن سائر الواقعيات خارجة عن ذلك، بل مقتضى الاستدلال المذكور أعلاه أن تكون كافة الحقائق الوجودية و الواقعيات الخارجية من الواجب بالذات إلى الهيولى الأولى واقعيات مشككة، بنحو لا يمكن التمايز و التكثر بينها إلا عن طريق التشكيك، كما قال صدر المتألهين: "إن الوجود حقيقة واحدة في الكل متفاوتة بالأتم والأنقص."[25]  نعم، لا يعني ذلك يكون التشكيك في كافة الحقائق الخارجية بنحو التفاضل، بل تلتزم بالتفضيل، لأن ما يمكن تقسيم الموجودات الخارجية إليه هو ثلاثة أقسام:

1- الموجودات التي بينها رابطة علية معلولية فاعلية. و هذه الموجودات تشكل سلسلة، كل حلقة منها و دون استثناء، إما هي فعل التي قبلها فقط أو فاعل للحلقة التي بعدها فقط أو هي فعل الحلقة التي قبلها و فاعل للحلقة التي بعدها. و هذه السلسلة تنتهي من جهة إلى الواجب بالذات و من جهة إلى الهيولى الأولى، و في الوسط، و بعد الواجب بالذات تقع السلسلة الطولية للعقول. و بعد السلسلة الطولية للعقول تقع الموجودات المثالية. و بعد الموجودات المثالية تقع الموجودات المادية. لأنّ العليّة الفاعلية تستلزم التفاضل و هو بنفسه تستلزم للتشكيك.[26] و هذه الموجودات مشمولة للتشكيك التفاضلي، أي أنّ كل واحدة بالنسبة لما قبلها ناقصة و ضعيفة. و بالنسبة لما بعدها كاملة و شديدة إلى أن نصل من جهة إلى الواجب بالذات و هو لا يمكن فرض ما يكون أكمل منه، و من جهة أخرى إلى الهيولى الأولى التي لا يتصور أنقص منها.

2- الموجودات المتفاضلة التي لا يوجد منها علاقة علية و معلولية فاعلية، كبياض هذه الورقة و بياض القطعة الخاصة من العاج، و بشكل عام الأفراد المتفاضلة في الأنواع الكيفيات والكميات. حال هذه الموجودات أيضا هو كحال الطائفة السابقة في أنها مشمولة للتشكيك التفاضلي.

3- الموجودات التي ليس بينها علاقة العلية المعلولية الفاعلية و لا هي متفاضلة بنفسها، كما في أفراد نوع واحد من الجوهر، كما في القطرات المتعددة لمقدار من الماء، و هذه الموجودات كما ذكرنا تكون مشمولة للتشكيك، و لكن لا التشكيك التفاضلي المستلزم للكمال و النقص بين الأفراد بعضها بالنسبة إلى البعض الآخر، بل التشكيك العرفي حيث يكون ما به الاشتراك و ما به الامتياز بين الأمور المتكثرة حقيقة واحدة دون أن يكون هناك أيّ تفاضل في الواقع.[27] 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

نتائج البحث

   ممّا تقدّم توضيحه أعلاه يمكننا الوصول - بناء على التشكيك في الوجود-  إلى استنتاج مفاده:

1- أنّ التشكيك في الذهن، أي في دائرة الماهيات و المفاهيم أمر لا يمكن تحقققه، بل ما هو ممكن و لابدّ أنّ يكون      الأنواع الثلاثة المشهورة.

2- أنّ التمايز في الخارج، أي في الحقائق الوجودية و الواقعيات إنّما يكون ممكنا فقط عن طريق التشكيك، و هو غير ممكن بغير واحد من الأنحاء الثلاثة المشهورة. "إنّ التفاوت بالأشد والأضعف(أي التفاوت التشكيك)، إن لم يكن في طبيعة الوجود، فيحتاج إلى مميز فصلى أو عرضي و إن كان في نفس طبيعة الوجود، فما به الاتفاق عين ما به الامتياز، فلا يحتاج إلى مميز آخر." [28] "و هذا من خواص حقيقة الوجود."[29]

3- التمايز التشكيكي للحقائق الوجودية بعضها عن البعض الآخر في الخارج ينعكس في الذهن على صورة التمايزات الثلاثة للماهيات و المفاهيم بعضها عن البعض. "و اختلافهما أي اختلاف حقيقة الوجود كمال و نقصا في ذاتها.. هو أصل اختلاف الأشياء في الماهيات و لوازمها و عوارضها." [30]

4- و على أساس نظرية أصالة الوجود و اعتبارية الماهية تبطل نظريات التي تنسب إلى شيخ الإشراق والمشاء، و قد أثبت ملا صدرا على أساس هذه النظرية أنّ الماهية مجرد صورة ذهنية للواقعيات و يرجع التشكيك إلى الواقعيات في الخارج، و أمّا التمايز بالأنواع الثلاثة فيخصّه بالماهيات في الذهن، و هذه الأنواع الثلاثة هي مجرد صور ذهنية للتمايز التشكيكي الخارجي، أي كما أنّ نفس الماهيات هي صور ذهنية للواقعيات، فالكثرة منهما بواحد من الأنحاء الثلاثة هي أيضا صورة ذهنية للكثرة التشكيكيّة في الواقعيات.

5- التشكيك يكون في الوجود بمعنى ما به الامتياز والاشتراك يرجع إلى ما به الاتحاد و الافتراق.

المصادر والراجع

1- الإيجي، عضد الدين ، المواقف، المتبني و مكتبة سعد الدين، بيروت.

2- السبزوارى، هادى، الرسائل، التحقيق: جلال الدين الآشتيانى، مشهد المقدس.

3-  الشيرازى، محمد بن إبراهيم، تعليقه بر شفاء ابن سينا، مؤسسة الحكمة الإسلامية، طهران، 1382ش.

4- الشيرازى، محمد بن إبراهيم، تعليقة بر حكمة الاشراق، چاپ سنگى.

5- الشيرازى، محمد بن إبراهيم، الحكمة المتعالية في الأسفار العقلية الأربعة، دار إحياء الدار التراث العربى، بيروت، الطبعة الثالثة، 1983م.

6- الشيرازى، محمد بن إبراهيم، شرح أصول الكافي، انتشارات بنياد حكمت اسلامى صدرا.

7- الشيرازى، محمد بن إبراهيم، شرح الهداية الأثيرية، التصحيح: محمّد مصطفى، مؤسسة التاريخ العربى، بيروت، 1422هـ . ق.

8 - الشيرازى، محمد بن إبراهيم، الشواهد الربوبية، طبعة بنياد صدرا، قم، ط1، 1985م

9- الشيرازى، محمد بن إبراهيم، مجموعه رسائل فلسفي صدرا، انتشارات بنياد حكمت اسلامى صدرا، طهران، ط1، 1384ش.

10- الشيرازى، محمد بن إبراهيم، المبدأ والمعاد، ترجمه و شرح عبد الحسن، تهران، 1366ش.

11- الطباطبائى، السيد محمّد حسين، بداية الحكمة، الشارح: الشيخ علي شيرواني، مترجم: حبيب فياض، دار الهادى، ط1، 1995م.

12-  عبوديت، عبد الرسول، النظام الفلسفي لمدرسة الحكمة المتعالية، التعريب: على الموسوى، ط1، بيروت،2010م.

13- عبوديت، عبد الرسول،  نظام حكمت صدرائي، تشكيك در وجود، قم، مؤسسه آموزشى و پژوهشى امام خمينى(رح)

14- غرويان، محسن، مقالة بحث حول التشكيك، القسم الثاني، ص2-3، (مقالة).

15-  اللاهيجي، محمّد جعفر، شرح كتاب المشاعر لصدر الدين الشيرازي، تصحيح: جلال الدين الآشتياني، مؤسسة الإعلام الإسلامى، قم، ط2.

16-  اللاهيجي، الملا عبد الرزاق، شوارق الإلهام، ط مهدوي، أصفهان، الطبعة الحجرية.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

فهرست الموضوعات

مقدمة. 2

الفصل الأول: خصائص الحكمة المتعالية. 3

1- مكانة الفلسفة قبل ظهور الحكمة المتعالية. 4

2- مكانة الفلسفة بعد ظهور الحكمة المتعالية. 5

الفصل الثاني: التشكيك عند الحكمة المتعالية. 7

1- أنواع الامتياز. 12

2- التشكيك في الوجود: 13

3- نوع الوحدة التشكيكية: 14

4-  دلائل تشكيك الوجود: 15

5-  النظام التشكيكي للوجود 20

نتائج البحث.. 23

المصادر والراجع. 24

 

 

 

 



[1] - انظر: عضد الدين الإيجي، المواقف(بيروت المتبني ومكتبة سعد الدين) ص7. "الكلام يقتدر معه على إثبات العقائد الدينية بإيراد الحجج ودفع الشبه والمراد بالعقائد ما يراد به نفس الاعتقاد دون العمل والدينية المنسوبة إلى دين محمد(ص)". الملا عبد الرزاق اللاهيجي، شوارق الإلهام.(أصفهان- مهدوي) الطبعة الحجرية ص3.

[2] - الوجود الطولي للماهية، الأسفار، ج1، ص262-263. كون النفس جسمانية الحدوث، المصدر نفسه، ج6، ص285-330. و قاعدة (بسيط الحقيقة كل الأشياء)، المصدر نفسه، ج2، ص368-372، و التقدم بالحقيقة و التقدم ، المصدر نفسه، ج3، ص256.

[3] - النظام الفلسفي لمدرسة الحكمة المتعالية، ج1، ص192.

[4] - يطلق على الكمال والنقص أو الشدة و الضعف أو القلة و الكثرة و نحو ذلك تسمية "أنحاء التفاعل أو أنحاء التشكيك" كما ذكرناه في المقدمة. و لمزيد من التوضيح انظر: نظام حكمت صدرائي "تشكيك در وجود" ص30-32.

[5] - الأسفار، ج1، ص436.

[6] - المصدر نفسه، ج1، ص36-37.

[7] - شرح الهداية الأثيرية ص302-303.

[8] - النظام الفلسفي لمدرسة الحكمة المتعالية، ج1، ص221-223.

[9] - بداية الحكمة، تح: شيرواني، ج1، ص72-73.

[10] - بداية الحكمة، تح: شيرواني، ج1، ص75.

[11] - تعليقه بر شفاء، ج1، ص130-131.

[12] - النظام الفلسفي لمدرسة الحكمة المتعالية، ج1، ص232-233.

[13] - يتعرض صدر المتألهين بعبارات مختلفة للاشتراك العيني بين الحقائق الوجودية والواقعيات الخارجية،  في موارد كثيرة مفردة اشتراك أو مشترك من ذلك. الأسفار، ج1، ص113، 257، ج6، ص17، 20، الرسائل، ص119، تعليقه بر شفاء، ج2، ص928، و غير ذلك.

[14] - الشواهد الربوبية، طبعة بنياد صدرا، ص165، 135.

[15] - تعرّض صدر المتألهين في كثير من الموارد للوحدة العينية الحقيقية التشكيكية للوجود. انظر: الأسفار، ج1، ص254، 120، 379، 401، 433، وغير ذلك من الموارد.

[16] - المصدر نفسه، ج1، ص120.

[17] - انظر: الأسفار، ج1، ص113، المشاعر، ص46، مجموعه رسائل فلسفي صدر المتألهين، ص286.

[18] - مقالة بحث حول التشكيك، القسم الثاني لمحسن غرويان، ص2-3.

[19] - الأسفار، ج1، ص433.

[20] - المصدر نفسه، ج1، ص36.

[21] - المصدر نفسه، ج1، ص36.

[22] - المصدر نفسه، ج1، ص133-134، المبدأ والمعاد، ج1، ص88.

[23] - الأسفار، ج1، ص255.

[24] - الأسفار، ج6، ص87، لمزيد توضيح هذا الاستدلال فراجع تعليقة بر حكمة الاشراق، ص304.

[25] - الأسفار، ج7، ص158، "إن الوجود مع كونه حقيقة واحدة بسيطة شاملة لجميع الأشياء." تعليقة بر شفاء، ج1، ص449.

[26] - "المعلول لا يمكن أن يساوي علته في رتبة الوجود وإلا لم يكن أحدهما بالعلية أولى من الآخر." الأسفار، ج7، ص149، شرح أصول الكافي، ص335- 336.

[27] - انظر: نظام حكمت صدرائي، تشكيك در وجود، ص208-221.

[28] - تعليقة بر حكمة الاشراق، ص294.

[29] - تعليقة بر شفاء، ج2، ص1076.

[30] - المصدر نفسه، ج1، ص500.